انتبه.. أمامك شطيرة سامة !

14 نوفمبر 2023
14 نوفمبر 2023

إذا شارك شخصٌ ما شخصًا آخر شطيرة، وقام الشخص الثاني بتناولها، ثم ظهرت عليه آثار التسمم بسببها، وبعد فترة من الزمن صادف أن قام الشخص الأول بمشاركة نفس الشطيرة أو واحدة أخرى مشابهة، فإن الشخص المعني سوف يبدأ جسمه في تطوير أعراض التسمم قبل تناول الشطيرة؛ لأن دماغه يكون وقتها قد استدعى ما حدث في الماضي، واستنفر أجهزة الجسم الدفاعية وفق رسالة مفادها: انتبه! أمامك شطيرة سامة، وعلميًا تسمى هذه الاستجابة باسم التكييف البافلوفي نسبةً إلى العالم الذي وضعها Pavlovian Response، إذ تفترض نظرية بافلوف للتعلم - والمعروفة بمصطلح «التكييف الشرطي الكلاسيكي»- بأنه يمكن تعلم السلوكيات من خلال فهم الارتباط بين المحفزات المختلفة، وهو نوع من التعلم المشروط الذي يحدث بسبب الاستجابات الفطرية التي تنشأ بناءً على التجارب السابقة، هذه النظرية تم تطويرها من قبل عالم وظائف الأعضاء الروسي إيفان بتروفيتش بافلوف والحائز على جائزة نوبل للطب في عام 1904م، ولها تطبيقات كثيرة في علم النفس السلوكي، ولكنها اكتسبت مؤخرًا أهمية كبيرة في مجالات الذكاء القيادي، والتواصل الفعال، فهل توجد أيضًا شطائر سامة في عالم الأعمال والقيادة الإدارية؟ في البدء لا بد من الإشارة إلى أن مبادئ نظرية التكييف البافلوفي قد زحفت من محيط علوم الفسيولوجيا والسيكولوجيا إلى عالم المكاتب والإدارة، والعمل الخاص، وريادة الأعمال، جاء ذلك في إطار سعي الباحثين والمنظرين والمُفكرين للوصول لفهم شامل لأعماق التواصل والتفاعل بين قادة العمل من جهة، وأعضاء الفرق التنفيذية، والتقسيمات الإدارية التي تقع في نطاق إشرافهم من جهة أخرى، وذلك في سياق تقييم أساليب النقد، وطرق تقديم التغذية الراجعة السلبية بشكل احترافي ومهني، وفي المجمل كان محور تركيز هذه الدراسات حول تكتيكات القيادة في تقديم النقد بشكل بنَّاء وعملي، وأظهرت الدراسات أهمية التوقف عند واحدة من أسوأ تقنيات الإدارة التي يتم اتباعها في الكثير من بيئات العمل؛ وهي في الأساس محاولة تقديم التغذية الراجعة السلبية دون جعل المتلقي يشعر بالسوء، والفكرة هي أن يقوم قائد العمل بالاجتماع مع الموظف أو فريق العمل لإيصال نقد معين في الأداء، فيبدأ بالإطراء على مهمة قام به الموظف أو الفريق بشكل جيد، ثم يقدم التعليقات النقدية والملاحظات، ويختتم بمزيد من الثناء، وأطلق عليها شطيرة الإطراء، أو شطيرة المجاملةPraise Sandwich، وهي عملية «تضمين» النقد داخل الثناء، أو بمعنى أدق إخفاء التعليقات الانتقادية داخل الشطيرة، وهي مجازيًا شطيرة سامة لأن الثناء الظاهري هو في الحقيقة غطاء للانتقاد، وهي سامة لكلا الطرفين؛ لأنها تؤذي المتلقي، وتفقد قائد العمل المصداقية، فهي تفرض على المتلقي ردة فعل شديدة الترقب في كل مرة يستفتح فيها محادثته بالثناء، وبالإضافة إلى ذلك، هذا النوع من التواصل يمكن أن يتسبب في ضياع الجزء المهم من الرسالة؛ وهو توصيل النقد البناء بهدف التطوير والتعلم لغياب عنصر الوضوح من منهجية شطيرة الإطراء.

وتؤكد الدراسات الاستقصائية والتحليلية أن محاولة إيصال نقد الأداء السلبي بين طبقات التعزيز الإيجابي لا تنجح، فمن الناحية العصبية، تخلق شطيرة الإطراء رابطة عقلية سلبية بين اجتماعات تقييم الأداء، وحتمية التعرض للانتقاد المبطن بالمجاملة، وهذا الخلل في التواصل ينشأ عندما نخلط الرسائل الإيجابية والسلبية معًا مما يهدم أغلى قيم العمل؛ وهي الثقة بين قائد العمل وفريقه، وبذلك تفقد بيئة العمل ركنًا أساسيًا في العمل الجماعي بروح الفريق؛ لأن كل فرد سوف يسعى لا شعوريًا للبحث عن صمام الأمان الذي يحميه من التعرض للشطيرة السامة، وهنا تنشأ ثقافة إلقاء اللوم بعيدًا عن الذات، وهي أحد أكبر معوقات تحقيق الإنجاز الفعلي، وأما من الناحية السمعية والإدراكية، فنحن البشر نتأثر بالترتيب الموضوعي في تلقي الرسالة Serial Position Effect أي أننا لا نولي اهتمامًا بالسردية التي تأتي في منتصف الحديث، فنحن نسمع المجاملة التي وردت في البداية؛ لأنها تتوافق مع درجة الانتباه والفضول المبدئي، وكذلك نسمع المجاملة في النهاية؛ لأن هذه هي الرسالة الأخيرة التي تظل عالقةً في أذهاننا، أما ما يذكر في منتصف الحديث فلا يصل بشكل كامل لمستوى الإدراك، وبذلك تضيع التغذية الراجعة الواقعية التي يسعى إليها قائد العمل لإيصالها للفريق، وبذلك تظل التحديات بعيدة جدًا عن المعالجة.

تنتشر منهجية شطيرة الإطراء في بيئات العمل التي تسودها ثقافة تجنب الوضوح المباشر تفاديًا لظهور التحديات الملحة التي تتطلب معالجات عميقة، ويعتقد رواد المدرسة الفكرية المؤيدة لشطيرة المجاملة بأنها نوع من النقد البناء الذي يخفف عن المتلقي مشاعر الإحباط؛ لأنها تأتي بصورة تراعي جانب الإشادة بنقاط القوة والإنجازات السابقة، ولكن واقع العمل اليوم مع تطورات التكنولوجيا وديناميكية سوق العمل وتطور مفاهيم العمل عن بعد وفرق العمل الافتراضية جعل من شطيرة الإطراء منهجًا متقادمًا، ففي مسوحات استطلاع أفضليات الموظفين في أساليب تقديم التغذية الراجعة من قبل قائد العمل جاءت نسبة الاستجابات التي تؤيد أهمية «إيصال حقائق صريحة وغير مصقولة للمتلقي» عالية مقارنةً بالموظفين الذي لا يمانعون سماع التغذية الراجعة السلبية مقرونةً بالمجاملات لإنجازاتهم، وهذه المؤشرات تؤكد على ضرورة تبني أسلوب تواصل تحليلي وواقعي مستند إلى البيانات والأرقام الحقيقية، وبلغة محددة وواضحة تشير إلى النقاط المطلوب تطويرها أو تغييرها وذلك بالنظر إلى التحديات القائمة بشكل منطقي ونزيه، وبعيدًا عن المشاعر الانطباعية، والكلمات العاطفية التي تغطي الهدف الأساسي من التواصل.

إن الوضوح والشفافية هي أقصر الطرق لبناء تفاعل مهني صحي وفاعل، فاللجوء إلى نهج شطيرة الإطراء لا تؤثر فقط على الحذر المتزايد في تنفيذ المهام واختيار الأعمال اليسيرة، لكنها تؤثر بشكل أعمق بكثير فهي تعمق توجهات إحجام فرق العمل عن المبادرات الابتكارية الجديدة كليًا التي تضم نسبة من المخاطر؛ لأن خبراتهم المرتبطة بالتجارب الماضية ستؤدي إلى إطلاق كل أنواع أجراس التحذير في رؤوسهم؛ لأن احتمالات عدم تحقيق أهداف المبادرات تضعهم عرضة الانتقادات المبطنة، وهنا تظهر أهمية الذكاء القيادي الذي يفرض على قادة العمل دورًا كبيرًا في إرساء منهج مبني على الصراحة، وذلك بتقديم الإطراء والثناء والإشادة في موضع التكريم، والتحدث عن التحديات ومناقشة أوجه القصور والإخفاق في موضوع مراجعة الأداء، مع تشجيع التجديد والتطوير وضمان تقديم الدعم المطلوب.

وتزخر أدبيات الذكاء القيادي باستراتيجيات بناء نظم التواصل الإيجابي في بيئات فرق العمل والمؤسسات، وذلك على أساس تطبيع عملية التواصل لتكون ثقافة عمل متواصلة ومستمرة وتأخذ مكانها في تفاصيل ساعات العمل، وليست حدثًا نادرًا أو موسميًا يترك الانطباع لدى المتلقين بأنه إجراء مخيف يستوجب الاستعداد وتقديم المبررات، والبحث عن مخارج تحميهم من تلقي اللائمة على عدم الإنجاز، مع مراعاة الوضوح في إسناد المهام، وتحديد درجة التوقعات، والنطاق المسموح به في الخروج من هذا النطاق، وتوفير المتابعة المستمرة، ورصد المعوقات التي تعترض تنفيذ العمل، وإتاحة الفرصة للموظف لمعالجة هذه التحديات أولًا من أجل اكتساب الثقة في اتخاذ قرارات مهنية بعيدًا عن نمط اتخاذ القرار من مستوى الإدارات العليا للمستوى التنفيذي، وفي حال لم تنجح هذه القرارات والتدخلات فإن فرق العمل تكون قد اكتسبت فرصة التعلم بالتجريب، وهذا له دور كبير في تحقيق الأمان السيكولوجي في بيئات العمل، حيث يتطور الموظفون وفرق العمل من منطلق الثقة بأن التحديات هي فرص للتعلم والابتكار، وليست مبررات الانتقاد واللجوء للجمود خوفًا من التجديد.

وهذا يقودنا للنقطة الأهم في تفادي شطيرة الإطراء السامة؛ وهي وعي قادة العمل بأهمية التواصل الصحي مع الموظفين وفرق العمل باتباع نهج الاتصال ثنائي الاتجاه، وذلك عن طريق تطوير مهارات الاستماع الجيد، وتشجيع مشاركة وطرح الأفكار وطلب مدخلات للنقاش، وطرح أسئلة ذات عمق ومغزى تحفز الموظفين على التفكير بموضوعية في أدوارهم، وتشجيعهم على التقييم الذاتي، وقياس مدى رضاهم عن إسهامهم في إنجاز الأعمال المطلوبة منهم، وكيف يمكنهم تعزيز قدراتهم الذاتية لإضافة قيمة في العمل الجماعي التشاركي، وباتباع هذه الاستراتيجيات لن يكون هناك مكان للشطيرة السامة، ولن يضطر قادة العمل لتفادي توجيه التغذية الراجعة السلبية وتغليفها بالمجاملات لأنه لن تكون هناك دواعي لاستخدامها، فالتواصل المفتوح والمستمر سيتكفل بوضع المعالجات الضرورية في مكانها، وتوجيه التدخلات في وقتها، وقيادة تحقيق الأهداف بمسؤولية مشتركة، وبذلك تتحول الصورة تلقائيًا من إلقاء اللائمة والانتقادات السلبية إلى رحلة تعلم مهنية تمهد الطريق نحو العمل بوعي أكبر وتركيز نحو الإنجاز المنشود.