اليهود بين القرآن والتاريخ

26 مارس 2024
26 مارس 2024

يحظى اليهود في القرآن بآيات عديدة خصصها الله لهم، فقد جاء ذكرهم ثماني مرات، فضلًا عن الآيات التي تخاطب بني إسرائيل والتي بلغت إحدى وأربعين آية. والحقيقة أن هناك خلطًا وتداخلًا في الثقافة الشائعة بين كلمتي «اليهود» و«بني إسرائيل»؛ ولذا يلزم التمييز بينهما، وبيان ما طرأ على دلالة كل منهما عبر التاريخ.

بنو إسرائيل هم ذرية يعقوب الذي قيل إنه كان يُسمى أيضًا «إسرائيل» بعد أن صارع الرب من دون أن يدري، فنال بركته، فهو إذن «المبارك من الرب». وهؤلاء ينحدرون من قوم موسى الذين يشير إليهم القرآن بكلمة «الأسباط»، وعددهم اثنا عشرة سبطًا أو قبيلة، مصداقًا لقوله تعالى: «وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ « الأعراف»، 160. وقد أوعز موسى إلى قومه هؤلاء بعد محنتهم على أيدي آل فرعون ألا يرتدوا فيعودوا إلى أرض مصر، فيفتك بهم آل فرعون مجددًا. ولذلك ارتحل قوم موسى في أرض الله الواسعة وتفرقوا شيعًا (وهذا ما يُعرَف بالشتات الذي كان قدرهم ومصيرهم)؛ فمنهم من رحل إلى أرض الشام، ومنها فلسطين؛ ومنهم من رحل إلى الجزيرة العربية وشكلوا قبائلَ قبل الإسلام، أهمها: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وبنو «خيبر». هؤلاء هم من يخاطبهم الله في قرآنه: «يا بني إسرائيل».

ولأن الأسباط من بني إسرائيل أو ذرية يعقوب لم يؤمنوا كلهم بالتوراة التي نزلت على موسى؛ فإن اليهود هم بنو إسرائيل الذين آمنوا بشريعة موسى. وترجع كلمة «اليهود» إلى كلمة «يهودا»، وهو الاسم الذي أطلقته زوجة يعقوب على ابنها الرابع؛ ومن هنا جاءت كلمة أو صفة يهودي التي تعني «شاكر الرب على نعمته». والواقع أن كلمة «اليهودية» قد اقترنت في وعي الناس في الشرق والغرب بصورة سلبية بغيضة، بل كان هناك في الغرب -لعدة قرون حتى الحرب العالمية الثانية- احتقار لليهودية ولمن يدينون بها، وكان يُنظَر إلى الشخص اليهودي باعتباره الشخص المادي المُرابي المحب للمال، والبخيل، والمخادع غير الشريف!

وعلى هذا، يمكن القول إن المصير المأساوي لليهود لم يتمثل فحسب في حالة الشتات، وإنما أيضًا في النبذ والاحتقار. ولقد سعت الحركة الصهيونية إلى تغيير الصورة الذهنية البغيضة عن اليهود (وهو ما تحقق بعد الحرب العالمية الثانية)، فراحت تُروِّج منذ نشأتها كحركة سياسية إلى استخدام كلمتي «إسرائيل» و«بني إسرائيل» بدلًا من كلمتي «يهودية» و«يهودي»؛ ليتخلصوا من الوصمة التي اقترنت باسم «اليهود»، وليؤصلوا وجودهم في العرق بدلًا من الدين، ولكن هيهات! فمثل هذا الزعم يجافي وقائع التاريخ والجغرافيا: فشعب إسرائيل الحالي فضلًا عن اليهود عمومًا ينتمون إلى أصول عرقية عديدة ومتداخلة، ولا صلة لهم بذرية يعقوب إلا من خلال الإيمان. يسخر الواقع والتاريخ من هذا الزعم، مثلما يسخران من ادعاء اليهود بأنهم ضحايا الإنسانية من خلال الإبادة أو ما يُعرَف باسم «المحرقة»؛ وبذلك فإنهم يحتكرون مفهوم الإبادة الذي كان مصير كثير من الشعوب، ومنها شعب الهنود الحمر على سبيل المثال.

***

ما أود التأكيد عليه -بعد هذه الملاحظات التوضيحية- هو أن كثرة ورود كلمتي اليهود وبني إسرائيل في القرآن لا يعني احتفاء القرآن باليهود على الضد من الصورة الذهنية السلبية التي تشكلت عنهم عبر التاريخ. ومن المدهش أن بعض الصهاينة العرب في يومنا هذا يروجون لهذا الزعم، بل يروجون القول بأن القرآن نفسه قد أقرَّ بأفضلية اليهود على سائر البشر، وراحوا يستشهدون على زعمهم بآيات من قبيل: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) «البقرة:47» ، وقوله تعالى في سورة الدخان: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ .(33) وفي ذلك أغراض خبيثة تهدف إلى تغيير مقاصد النص الديني باستخدام آية أو أخرى بمنأى عن سياقها، وبمنأى عن الآيات الأخرى التي تتخذ في مجملها من اليهود عبرة لأنفسهم ولمستقبلهم، وللمؤمنين عمومًا. والشواهد على ذلك عديدة من آيات الله تعالى الذي يقول:

(لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا) «المائدة: 82»، وذلك من أجل التأكيد على العنصرية وبغض الآخر أو الأغيار من المؤمنين.

ويقول: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) «البقرة: 96»، وذلك للتأكيد على حرصهم على الحياة الدنيا في أية صورة كانت.

ويقول: (أوَكلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون) «البقرة: 100»، في إشارة واضحة إلى اعتياد اليهود نقض المواثيق والعهود.

ويقول: (ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُواْ إِلَّا بِحَبل مِّنَ اللَّهِ وَحَبل مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُو بِغَضَب مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ لمَسكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَانُواْ يَكفُرُونَ بِـايَتِ للَّهِ وَيَقتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعتَدُونَ) «آل عمران: 112»، وذلك في إطار بيان مساوئ اليهود، وما آلوا إليه بمسلكهم وفسادهم.

غير أن الآية التي أرها أهم آية في هذا السياق هي: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُّن علوًّا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا. إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، فإذا جاء وعد الآخرة ليسُوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة) «الإسراء: 4-7». وأهمية هذه الآية عندي تكمن في أنها تُجمِل الموقف القرآني من بني إسرائيل واليهود بوجه عام من حيث وضعهم الوجودي ومستقبلهم في هذا العالم، فإلى أي حد يمكن تطبيق الرؤية القرآنية على عالمنا الراهن اليوم؟ بالتأكيد يمكن تطبيق هذه الرؤية على ما مضى من وقائع التاريخ، ولكن عظمة التصوير التراجيدي لمصير اليهود في هذه الآية هو أنه يترك المستقبل مفتوحًا، باعتباره مرهونا بمدى اتعاظ اليهود من ماضيهم، فيقول لهم المولى واعظًا هاديًا بقوله: «إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها»، وقوله محذرًا في نهاية سياق هذه الآية: «عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا». ويبدو أن اليهود الآن بعد مرحلة العلو الثاني يمارسون الإفساد الثاني في الأرض.