الوعي بالمسألة التاريخية

27 نوفمبر 2022
27 نوفمبر 2022

يذهب التعريف بالمسألة التاريخية؛ على أنها مجموعة من الأحداث المتسلسلة لمكون إنساني ممتد لفترات متواصلة من التاريخ، وهي ما ينتج عنها مستوى الوعي الجمعي لهذا المكون، بحيث لا تكون هناك صورة غالبة في تسلسل الأحداث حظيت باهتمام أكبر - على صورة أخرى أركنت لظروف خارجة عن الإرادة أو تم تجاوزها – ولذلك فالمسألة التاريخية بهذا الإحتواء تعبر عن هويتها، ولاتقبل "تنمر" هويات أخرى بديلة، كما لا تقبل "تسيد" عنوان على عنوان آخر؛ ضمن هذا التسلسل، وهذا ما يؤكد حمولتها الشاملة بجميع مكوناتها من الأحداث طوال فترة الزمن الذي تخضع فيه للدراسة عند دراستها دراسة موضوعية، ومتى حققت هذه الشروط الموضوعية، يحق لها أن تعلن عن نفسها على أنها مسألة تاريخية بامتياز، وهذا ما يشفع لتاريخ الأمم أن يُمَجَّد، وأن يُوثَقْ، وأن يكون المرجع، وأن يكون الحاضنة الأمينة للأمة، وحتى يكون السند عند الملمات، فلا يهان شعب لأنه مقطوع الصلة بتاريخه، ولا تهان أمة لأنها لا تمتلك رصيدا تاريخيا يحق لها أن تفتخر به بين الأمم، وبهذه المحددات، وبهذا التوصيف تحضر المسألة التاريخية بكل ثقلها، ويصبح المحافظة عليها، وإبقائها جوهرة مضيئة في سموات الرصيد الإنساني؛ واجب عيني على أبناء المجتمع، سواء المعنيين برصد أحداث هذه المسألة من الباحثين، والمهتمين، أو سواء الذين يوظفون مفردات هذه المسألة في حياتهم اليومية، سواء في السلم أو في الحرب، في الأوطان الأصيلة، أو الأوطان البديلة، فلا يحدثون انفصامات متعمدة، ولا انقسامات تؤججها صراعات طائفية أو دينية، أو عرقية، أو جندرية، وهذا ما يعبر عنه مفهوم الوعي الجمعي لدى أبناء المجتمع .

ومن هنا ينظر إلى المسألة التاريخية بكثير من الاهتمام؛ ذلك لأنها تؤرخ لزمن ممتد، وشخوص فاعلون، وإن كان المكان محددا، وتفاعلات في لحظة ما كانت لها أن تتم إلا في تلك اللحظة، أو أنها تمت في الظروف الآنية التي تسجلها اللحظة الزمنية في ذلك التاريخ، ومن هنا تكتسب المسألة التاريخية هذا البعد من الأهمية التاريخية، وهذا البعد من الأهمية المكانية، وهذا البعد من الظروف التي كانت مناسبة للحظة ميلادها، وهذا ما يؤول في النهاية إلى تشكل الوعي الجمعي لأبناء المجتمع بتاريخهم، ومجموعة الأحداث التي عززت وجود هذا التاريخ، مع استحضار مجموعة الظروف، والمكونات في كل لحظة تاريخية، فالمسألة التاريخية مسألة جامعة، ومملؤة بالأحداث وبالتناقضات، وبالتصادمات، وبالتقاطعات انعكاسا لحركة الناس وتفاعلاتهم، ولذلك عندما تخضع المسألة التاريخية للدارسة العلمية يجب أن تؤخذ كل هذه الظروف، وهذه الصور مأخذ الجد، ولا يستثنى من ذلك أي شيء منها، وإلا آلت هذه المسألة إلى النقصان، وهذا مما لا ينبغي عند التصدي لها، أو التوافق معها، أو الحياد منها، حتى لا تظلم مرحلة لحساب مرحلة، أو يضحى بمرحلة لصالح مرحلة أخرى، ومعنى ذلك فإن المسألة التاريخية، إما أن تقبل كلها بمحتواها؛ كحمولة؛ بكل مكوناتها، أو ترفض كلها بكل مكوناتها، مع أن الرفض يمكن أن يحدث ثغرة أو قطع للتسلسل التاريخي ككل، وهذا ما لا يقبل إطلاقا، ولذلك يقع بعض المؤرخين في هذا المأزق، عندما يتلاعبون بقدرات المسألة التاريخية، حيث يرجحون في تسلسل الأحداث مرحلة على مرحلة، أو يعملون قفزة غير منطقية في مسار الأحداث، فتظهر المسألة التاريخية مبتورة، وغير متسلسلة، ويحدث هذا إما لمصالح شخصية بحتة، وإما لتوجيه مباشر، وإما لشح في المعلومات الصحيحة، التي تفتقدها المصادر الموثوق بها.

والمسألة التاريخية هي قاسم مشترك بين جميع المكونات الجغرافية والاجتماعية، كما تدخل فيها الثقافة والاقتصاد والسياسة، من حيث المفهوم والمعرفة، والموضوع، ربما قد يرجح جانب من هذه الجوانب على جانب آخر، وذلك لاختلاف الشعوب، واختلاف إنتاجهم المعرفي والثقافي، ومجمل الأحداث التي يمرون بها، فلو قسنا ذلك على الشعوب العربية، فسنجد كل شعب تختلف ظروفه، وبالتالي مساهمته في المسألة التاريخية، فظروف الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت وطأة الاحتلال غيره عن الشعوب العربية الأخرى التي تعيش استقرار نسبيا في محتوى مكونها الجغرافي والاجتماعي، فهناك إنتاجات متباينة تحتويها المسألة التاريخية لكل مكون من هذه المكونات، فما بين صراعات سياسية، وصراعات مذهبية، وصراعات قبائلية، وصراعات لهويات اجتماعية، لن تجد أن هناك مسألة تاريخية موحدة في التعريف العلمي، ولكنها في النهاية هي تصنع مسائل تاريخية معبرة عن مكوناتها الاجتماعية، والجغرافية، وحتى الدين إلى الآن لم تتوحد تحت رايته مسألة تاريخية معينة، مع أن الجميع ينطوي تحت راية الدين الواحد "غالبا" وهو الدين الإسلامي الحنيف، هذا بخلاف الدول ذات الغالبية المسلمة، والتي هي الأخرى تكتب قصة مسألتها التاريخية بفصول مختلفة، وهذا ما يؤكد على أنه لا يمكن أن يطغى موضوع واحد على المسألة التاريخية فيحتكرها لصالحه، وتصطبغ بصبغته، ويؤدي ذلك – في المقابل - على تراجع بقية الموضوعات، فالدين (بمذاهبه المتصارعة) والعنصرية، القبلية، المناخات السياسية الأخرى، تساهم في إيجاد نقاط سمها (بيضاء، سوداء، رمادية، مختلطة الألوان) في إطار الإنتاج في المسألة التاريخية، ومعنى هذا أيضا أن المدة الزمنية تلعب دورا محوريا في تكريس أي هذه الموضوعات يمكن أن تحتل مساحة أكبر على خارطة هذه المسألة، فبعض الأحداث تمر سريعا دون أن تترك أثرا ملموسا، وبالتالي فتأثيراتها تكاد لا ترى، فمؤرخ هذه المسألة هو ما يجب أن يكون واضحا، حتى لا تختلط الأحداث وتتقاطع مستويات الاهتمام بالأحداث.

والسؤال هنا أيضا؛ هل ثمة ضروريات لمعرفة المسألة التاريخية؛ بمعنى هل تشكل أهمية تتجاوز أهمية الكثير عيش اللحظة الحاضرة وفقط دون الدخول في متون التاريخ؟ وللإجابة عن هذا السؤال؛ ربما قد لا تجد المسألة التاريخية اهتماما واضحا من قبل الفرد العادي المطحون بقضاياه اليومية الخاصة التي تفرضها ظروف الحياة اليومية، ولكنها مهمة إلى حد كبير لدى المؤرخ، والمتابع، والمهتم، فهي واحدة من مناخات المعرفة التي يجب أن تكون حاضرة في الذاكرة الجمعية‘ على أقل تقدير، إن سقط الاهتمام بها من قبل الفرد البسيط، ولو أن حتى هذا الفرد البسيط في مواقف معينة يعود إلى المسألة التاريخية ليستوضح مسألة ما من مسائل الحياة، حتى لا يكون مقطوعا عن أصله بشكل عام، وأقلها مثالا في حالات الزواج، حيث يتقصى الطرفين مسارات أسرة الطرف الآخر من منبتها ومآلاتها، ومجموعة التقاطعات التي تعيشها مع أسر المجتمع من حولها، فالحياة الاجتماعية هي جزء لا يتجزأ من هذه المسألة التي تتقصى كل جوانب الحياة العامة والخاصة على حد سواء، حتى تمدن هذا الفرد (أي ذاب في الحياة المدنية التي تتماهى فيها كل الحدود؛ كما هو الفهم العام) تراه يعود ليتقصى ورقة يراها ساقطة من تسلسل أوراق الملف الذي يبحث فيه.

تمتحن الأمم؛ بلا شك؛ في تاريخها، ويشوه التاريخ بكثير من الأدوات، وبكثير من الضغوطات، وبكثير من المغريات، وبكثير من طرح البدائل، خاصة عندما تتعرض الأوطان للإحتلال البغيض، حيث تهان الأمم والشعوب في تاريخها، وفي قيمها، وفي معتقداتها، فتدخل الأمم والشعوب في مواجهات مستمرة بغية المحافظة على هيبة مسألتها التاريخية؛ واستحقاقاتها الموضوعية، وهذه المواجهات أو "المصادات" التي ينبرئ أصحابها تبنيها؛ هي فرض عين على كل فرد من أبناء المجتمع، حتى لا تنقطع الصلات، وتشوه الحقائق، فتحدث ارتباكات على مجريات التاريخ، فيؤثر ذلك على محددات الوعي بالمسألة التاريخية، وهي المحددات المتمثلة في القناعات بحتمية المجريات التاريخية، واتخاذ المواقف لنصرته، والإيمان بأهميته، فمن أشد الضرر على الأجيال أن تعيش مقطوعة أو مغربة عن تاريخها، فتنشأ أجيال مشوهة، تبحث عن هوية، دون أن تنطلق من هوية تدرك أن بدونها لا تساوي شيئا، فتتوه في الهويات المستوردة من هناك، ومن هناك، فتلتحم مع أية هوية تجد فيها إشباعا؛ ولو محدودا؛ لشيء اسمه تاريخ، ومسألة أن الأجيال تصنع تاريخها بنفسها، فهذه صورة تكاد تكون مشوهة، أو تحتاج إلى كثير من التوضيح، لأن التاريخ ليس صناعة حاضرة في زمنها فقط، بل سلسلة متواصلة من الأحداث، والتقاطعات، والقيم والمبادئ.