الهيدروجين الأخضر: سلاسل التوريد وفرص تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
مع التسارع الذي يشهده العالم في اقتراب كل دول المعمورة من الاتفاق إلا أن الخلاص من تبعات الاحترار العالمي الذي يشهده الكوكب والذي جر على إثره كوارث طبيعية متوالية في مختلف وجهات العالم يكمن في التحول الحثيث والمباشر من الوقود الأحفوري إلى الوقود الأخضر والطاقة النظيفة. تبرز في الوقت ذاته حاجة ملحة أيضا للاتفاق على التعريفات العامة والبينية في هذا المجال من حيث تحديد تعريف واضح ومتفق عليه للهيدروجين الأخضر وطرق تدقيق اعتمادية الوقود المستخدم في إنتاجه وتحديد أنواعه وأثرها المختلف على البيئة من الجيد إلى الأقل جودة.
لقد جاءت أولوية البيئة ومصادر الطاقة المستديمة كإحدى الأولويات الوطنية لرؤية عمان 2040 والتي وضعت أهدافا طموحة في أن تكون عمان واحدة من أفضل عشرين دولة على المستوى العالمي في الأداء البيئي بحلول عام 2040. وقد جاءت المؤشرات والاستراتيجيات النابعة من الأولويات الوطنية للرؤية بصورة متناغمة مع الأهداف العالمية للتنمية المستدامة (SDGs 2030) بصورة مباشرة وغير مباشرة لكي يعزز ذلك مسيرة الرؤية وتكون بمصاف المعايير الدولية لشعوب الأرض.
انطلقت أول شحنة من الغاز الأحفوري من الجزائر عام 1964 ثم تلت ذلك عمليات استكشاف واستخراج وإنتاج إلى أن وصلت نسبة المنتج من الغاز الطبيعي ما يقارب 38% من إجمالي الغاز الأحفوري المنتج حول العالم عام 2019. ومنذ ما يقارب العقد من الزمان شهد العالم تحولا حقيقيا بالتفكير في التحول إلى الوقود الأخضر وذلك لإيجاد بدائل مستديمة ومتجددة لأشكال الطاقة للاستعاضة بها عن الوقود الأحفوري المحكوم بالنضوب. ومن هناك بدأت البحوث تدور حول طاقة الهيدروجين التي تمثل شكلا آخر من الطاقة المخزنة المتولدة كيميائيا والتي من خلالها تتحول الطاقة الكهربائية إلى هيدروجين يمكن تخزينه واستخدامه مرة أخرى كوقود لمحركات الاحتراق وخلايا الطاقة الكيميائية.
وعلى أصداء قمة المناخ ( Cop 27) فقد أفاد تقرير لمجلس الهيدروجين العالمي بأن سلطنة عمان واحدة من خمسة دول الأكثر تنافسية في السعر المنخفض لإنتاج الهيدروجين، كما أن هناك مجموعة من الدول أبدت رغبتها للاستثمار في قطاع الهيدروجين الأخضر في سلطنة عمان من بينها الولايات المتحدة الأمريكية ونيذرلاندز وألمانيا وأستراليا والهند والصين. ويعد ميناء الدقم من أولى المناطق اللوجستية الواعدة في السلطنة لتمكين الاستثمار في هذا القطاع الواعد من الوقود الأخضر المستقبلي من خلال بنية أساسية متكاملة وتسهيلات استثمارية محفزة.
ينتج الهيدروجين باستخدام التحليل الكهربائي للماء من خلال عملية تصنيعية بسيطة وبكفاءة عالية لرخص المنتج الأولي في عملية التصنيع. وتتعدد التقنيات التي ينتج من خلالها الهيدروجين حيث تختلف باختلاف المدخل الأولي للطاقة الكهربائية سواء أكانت من مصادر متجددة 100% أو من مصادر ملوثة بدرجات متفاوتة. فعلى سبيل المثال الهيدروجين الأخضر يتم إنتاجه من التحفيز الكهربائي للماء باستخدام طاقة كهربائية منتجة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح. على النقيض من ذلك فإن الهيدروجين البني ينتج باستخدام وقود الفحم والذي يوصف بأنه باعث للكربون ويستخدم بنطاق واسع في إنتاج الهيدروجين حول العالم.
وفيما يتعلق بالتمويل لمشاريع الهيدروجين الأخضر فقد وصف تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة IRENA لعام 2021 مشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر بأنها (Capital-Intensive projects) بمعنى أنها متطلبة لرأس مال كبير، الأمر الذي يتطلب دراسة بدائل تمويل كفؤة لتحقيق تقدم نوعي في هذا القطاع. كما سلط يوم التمويل في قمة المناخ Cop 27 في شرم الشيخ الضوء على الحاجة إلى استثمارات تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات كل عام لتحقيق تحولات سريعة بعيدة المدى مطلوبة لمعالجة تأثير أزمة المناخ، وتحقيق أهداف اتفاق بـاريس.
وفي الوقت الذي تعمل فيه مجموعة البنك الدولي مع مجموعة من الدول النامية على تسريع التحول الأخضر من المراحل الأولى وصولا إلى مستوى الإنتاج. يتعاظم الاحتياج إلى تأهيل وتمكين سياسات وتنظيمات وأطر تمويلية رشيقة جاذبة ومحفزة للمناخ الاستثماري في هذا المجال وذلك من خلال استيعاب المخاطر وتحسين الاعتمادية المالية للشركاء ورواد الأعمال وذلك لتوجيه رأس المال الخاص والمعرفة لتطوير قطاع التحول الأخضر. وفي هذا المجال فقد حدد وزير الطاقة والمعادن أربع سياسات فرعية تمثلت في سياسة كفاءة الطاقة، وسياسة الطاقة المتجددة، وسياسة الهيدروجين، وسياسة احتواء ثاني أكسيد الكربون وتخزينه واستغلاله، مؤكدًا أن ذلك يأتي تعزيزًا للدور الذي تعمل عليه وزارة الطاقة والمعادن في تطوير اقتصاد هيدروجين قوي وأخضر بالتنسيق مع الأطراف ذات العلاقة كالجهات الحكومية والشركات المختصة. وقد أكد المؤتمر الأسترالي-الألماني للهيدروجين الأخضر بأن الهدف من التعاون لا يجب أن ينحصر على تصدير المواد الأولية وعوامل الإنتاج بل يجب أن يكون السعي أيضا لنقل المعرفة والتقانة والاستشارات حيث إن التعليم والتدريب في هذا المجال بغاية الأهمية كون القطاع كله يتصف بالتطور المستمر.
هناك عدة تحديات مرتبطة بإنتاج وخزن وتوريد الهيدروجين الأخضر يكمن بعضها في التكلفة المرتفعة لمستلزمات عملية الإنتاج وكذلك وضوح الاستراتيجيات الوطنية للطاقة النظيفة ونقص البنية التحتية ولوازم الإنتاج المساعدة والمقاولين والمتعهدين الخارجيين وإحكام النموذج التصنيعي المتكامل والمجدي اقتصاديا. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الغاز الأحفوري مرتبط ارتباطا وثيقا بالموقع من حيث توفره في مواقع ودول معينة دون أخرى، فإن الغاز الأخضر يتحرر من عائق المكان إلى مجموعة مستلزمات ومحددات ولوازم إن توفرت أمكن إنتاجه في أي مكان تقريبا وبذلك تكون المنظومة الإنتاجية المتكاملة للغاز الأخضر فرصة مستديمة لاستحداث الأعمال والتعاقدات البينية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وفرصة واعدة من فرص التنويع الاقتصادي وبرامج تنمية المحافظات واستحداث أقطاب نمو جديدة في المناطق التي تشهد تباطؤا في الأداء الاقتصادي والنمو وذلك من خلال توجيه الاستثمارات ضمن فلسفة التخطيط الموجه Advocacy planning.
وتعد متطلبات إنتاج وتجهيز ونقل وتخزين واستهلاك الهيدروجين الأخضر مناخا واعدا لازدهار الشركات الصغيرة والمتوسطة المحلية حيث من الممكن أن تحسن هذه الشركات الخدمات القطاعية البينية لإنتاج الهيدروجين الأخضر مثل إنتاج خلايا الطاقة والألياف الكربونية وصناعة النقل البحري والسفن ومعدات الإنتاج والإليكترونيات المصاحبة. هذا ومن الممكن دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لاستدامة النهوض بالأعمال البينية والخدمات المصاحبة في قطاع إنتاج الهيدروجين الأخضر من خلال استراتيجية مستديمة تركز على دعم فرق تكلفة إنتاج الهيدروجين الأخضر والوقود الأحفوري ودعم المناطق الحرة وآليات الضريبة الصفرية أو المخفضة على مستلزمات إنتاج مصادر الطاقة المتجددة واستيرادها وكذلك تحسين أداء وتكلفة سلسلة إنتاج وتوزيع الهيدروجين الأخضر على المستوى الوطني. وفي هذا المجال فقد ذكرت المهندسة فايزة بنت محمد الحارثية رئيسة دعم أولوية الطاقة والبيئة والموارد الطبيعية في وحدة متابعة تنفيذ رؤية عُمان 2040 في معرض حديثها عن مفهوم الحياد الصفري والجهود الوطنية المبذولة للتصدي لظاهرة التغير المناخي بأنه تم تصنيف ست تقنيات رئيسة لخطة الحياد الصفري في السيناريو المتوازن لتغطية حصة كبيرة من خفض انبعاثات الغازات الدفيئة في عام 2050م، وهي كفاءة إنتاج واستهلاك الطاقة وكهربة العمليات ومصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين المستدام وتقنيات البطاريات الكهربائية واحتجاز الكربون وتخزينه والحلول القائمة على الطبيعة.
وبغية الوصول للفرص الحقيقية الكامنة التي من الممكن أن تستجيب لها الشركات الصغيرة والمتوسطة في هذا المجال فمن الضروري تفكيك عملية إنتاج الطاقة الخضراء إلى مراحلها وعملياتها الأساسية. ومن الممكن في هذا الصدد تجزئة مراحل إنتاج الطاقة الخضراء إلى خمس مراحل تتكون من الشراء (للطاقة الخضراء) (والتوليد) (والنقل) (والتوزيع) (والاستهلاك) موزعة على ثلاث عمليات رئيسية: هي (الشراء والمواد الأولية) (والإنتاج) (والاستهلاك).
هذا وبغية تحري الفرص الواعدة للشركات الصغيرة والمتوسطة في قطاع الطاقة النظيفة فيجب النزول إلى مستوى أكثر تفصيلا من عقود الشراء والتجهيز والخدمات. ومن جانب آخر يجب على حاضنات الشركات الصغيرة والمتوسطة في هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وحاضنات الأعمال في وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار التمهيد لهذه الفرص استباقيا من خلال دراسة العمليات التفصيلية للمراحل الخمس المذكورة أعلاه وتصنيف الفرص الاستثمارية الكامنة حسب الملاءات المالية والقدرات واللوجستية للشركات وتأهيلها للدخول في هذه السوق الجديدة الواعدة للأعمال والاستثمار. وتصب أكبر نسب استهلاك الوقود الأحفوري في الاستخدامات المنزلية والصناعة والنقل.
ومن وجهة نظرنا، تكمن الفرص الحقيقية المباشرة للاستثمار في هذا المجال وتحويل إنتاج الهيدروجين الأخضر إلى المستوى الربحي التجاري المجدي اقتصاديا وبيئيا في مجال التحول للوقود الأخضر في استعمال السيارات الصغيرة وسيارات الحمل المتوسطة كمرحلة ممهدة للانتقال إلى مراحل أوسع في توليد الطاقة النظيفة للاستخدامات المنزلية وكذلك إنتاج الأمونيا الخضراء لتشغيل محركات الديزل الكبيرة لشاحنات الحمل لسفن الشحن. ومن الممكن انبثاق مجموعة من الشركات التي توفر خدمة تكييف السيارات الحالية العاملة بالوقود الأحفوري لتعمل بوقود الهيدروجين الأخضر ولو بشكل جزئي تمهيدا للانتقال الكامل لاستخدام الوقود الأخضر والسيارات الكهربائية.
لقد أكد معالي وزير الطاقة والمعادن على أن اعتماد جلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ عام 2050م لتحقيق الحياد الصفري الكربوني وإنشاء مركز عُمان للاستدامة سيسهم في الاستفادة من التكنولوجيا النظيفة لتحقيق الاستدامة وبناء اقتصاد المعرفة وتنويع مصادر الطاقة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة من أجل تفعيل الخطة التنفيذية ومتابعتها مع المتغيرات على الساحة الدولية والمحلية التي قد تطرأ خلال فترة التنفيذ.
تمتلك سلطنة عمان فرصة كبيرة للريادة في ميدان إنتاج الطاقة النظيفة والوقود الأخضر وذلك لما حباها الله من ممكنات طبيعية للتحول المنشود والمتمثلة بالمساحات الشاسعة والأجواء الصحوة وفرص توليد طاقة الرياح والطاقة الشمسية التي تعد المدخل الرئيسي لإنتاج الهيدروجين الأخضر الصفري مباشرة دون التوسط في إنتاج الهيدروجين الباعث للكربون بنسب متفاوتة، هذا بالإضافة إلى تطور البنى التحتية المتمثلة باستحداث وتشغيل المناطق اللوجستية والمناطق الاقتصادية والموانئ البحرية وتطوير الكفاءات الوطنية وعقد الشراكات الاستراتيجية ضمن خطى مدروسة منبثقة من رؤية عمان 2040 وفكر حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه وإرادة كوادرها الوطنية الناهضة.
د. مهند مهدي خبير تخطيط حضري بوزارة الاقتصاد
