الهجرة واللجوء: الأزمة التي تتعاظم

05 يوليو 2023
05 يوليو 2023

فكرة الشعب الأصلي أو الأصيل في مكان أو موطن ما هي أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة. كل الشعوب التي استوطنت أماكن وأسست كيانات أو مستعمرات تحولت إلى دول ذات حدود وسيادة، هي في الأصل أقوام مهاجرة، نزحت من مواطنها القديمة إلى مواطن جديدة بفعل عوامل الطبيعة؛ السيول والفيضانات والجفاف والأوبئة، أو بفعل الصراعات والحروب.

لكن تأسيس الكيانات والدول ثم نسبها إلى هذه المجموعة البشرية أو تلك، بفعل حركة الهجرات والنزوح الجماعي، لم تعد ممكنة اليوم، فقد قامت الدول على حدود جغرافية وسياسية غير قابلة للتغيير، إلا في داخل حدودها وضمن توافقات الجماعات التي تعيش داخلها، في المقابل فإن حركة الهجرة والنزوح بفعل عوامل الطبيعة والصراعات والحروب لم تتوقف، بل لعلها ازدادت حتى باتت تشكل أزمة إنسانية عالمية متفاقمة.

في العام 2008، كنتُ أبحث في مسألة دارفور في السودان تحضيرا لبرنامج تلفزيوني، عندما وجدتني أمام أزمة إنسانية أكبر من تلك التي كانت الصحافة تتحدث عنها، أزمة كانت ولا تزال مجهولة وبعيدة عن اهتمام الصحافة العربية وغير العربية. قادني البحث إلى معلومات ووثائق عن وجود نحو مائتي ألف إنسان، معظمهم من النساء والأطفال والرجال كبار السن، اضطرهم القتال، وما كان يوصف بالتطهير العرقي في دارفور، إلى ترك منازلهم وممتلكاتهم والنجاة بحياتهم والنزوح إلى خارج الحدود، ثم العيش في مخيمات لجوء في صحراء تشاد أقامتها مفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين منذ العام 2003. وفي شهر مايو 2009 زرت تلك المخيمات لإنتاج فيلم وثائقي، حيث قضيت أياما مع اللاجئين، اقتربت منهم ومن تفاصيل حياتهم اليومية في مخيمات اللجوء، وعرفت عن قرب ماذا يعني أن يترك الإنسان أرضه وبيته، أن يقتلع من جذوره، وأن يُكره على النزوح واللجوء إلى الصحراء حيث العزلة عن العالم، والانفصال عن الماضي وعن المستقبل، وحيث لا أفق للحلم، رأيت الخوف وانعدام الأمل في عيونهم، وعرفت الجروح العميقة والغائرة داخل نفوسهم التي تتسبب فيها الهجرة واللجوء.

ورغم ما يبدو من فروق بين الهجرة واللجوء، فإن الأسباب والنتائج تكاد تتشابه، ففي الحالين ينفصل الإنسان عن منطقة أمانه النفسي إلى مناطق جديدة وغريبة، قد تنقضي سنوات حياته دون أن يشعر فيها بالاستقرار والأمان. صحيح أن الهجرة، في بعض حالاتها، أقلّ قسرية، وهي، في حدود معينة، اختيار يمكن تأجيله أو المناورة عليه أو البحث في البدائل حوله، إذا ما قارناها بالأسباب القهرية للجوء أو النزوح، إلا أن الإنسان لا يترك مكانه، وموطنه وعالمه وعلاقاته وذاكرته، وأمانه النفسي، إلا مضطرا أو مدفوعا بهواجس الخوف على حياته، وكرامته، ومعيشته، ومستقبله. أسباب الخوف بعضها محسوس ومُشاهد، كما في الحروب وعوامل الطبيعة، وبعضها مُستتر، كما في القهر السياسي والاقتصادي والملاحقة والتضييق الأمنيين، وعن هذا النوع الثاني، عايشت وعرفت حالات عديدة في بلدان عربية مختلفة خلال عملي الصحفي في العقدين الماضيين.

حادث غرق قارب يحمل سبعمائة وخمسين مهاجرا من دول عدة بينها سوريا ومصر وفلسطين وباكستان وأفغانستان قبالة سواحل اليونان في الرابع عشر من يونيو الجاري، توفي بعضهم غرقا وفقد بعضهم الآخر، ومن تأكدت نجاته، حتى كتابة هذا المقال، عدد قليل.. هذا الحادث أعاد السؤال عن الظاهر والمستتر من دوافع الهجرة واللجوء، بالقدر الذي أعاد إلى ضمير البشرية هذه الأزمة الإنسانية المؤلمة.

حادث غرق قارب المهاجرين الأخير لم يكن الأول ولن يكون الأخير. في أكتوبر العام الماضي، غرق قارب آخر قبالة شواطئ اليونان يقل مهاجرين، توفي عدد منهم غرقا، وهناك العشرات الذين يلقون حتفهم غرقا قبالة الشواطئ التونسية بصفة شبه يومية، وقد تمكّن أربعة وعشرون ألف مهاجر من العبور بحرا من تونس إلى إيطاليا في يناير الماضي. وخلال العقد الأخير، شاهدنا وقرأنا العديد من القصص المأساوية للاجئين السوريين على حدود دول أوروبية.

الأعداد التي وثقتّها منظمة العفو الدولية تُشير إلى وجود 26 مليون لاجئ حول العالم، والمؤلم أن نصف هذا العدد من الأطفال، والأكثر إيلاما أن 85% من هؤلاء اللاجئين وطنّوا في دول نامية، أي أن حالهم كمن استجار من الرمضاء بالنار. مفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين ذكرت أن عدد اللاجئين حول العالم ارتفع مع نهاية عام 2022 بنسبة 23% عن العام الذي سبق، وبين هؤلاء ستة ملايين ونصف مليون لاجئ من سوريا وحدها. الحرب الروسية الأوكرانية ضاعفت الأرقام دون شك، وعمّقت الأزمة.

دول الشرق الأوسط وأفريقيا إجمالا تحتل المرتبة الأولى في أعداد طالبي الهجرة واللجوء، باستثناء سوريا والسودان وليبيا والعراق وأفغانستان، وهي الدول التي تشكل الصراعات والحروب وعدم الاستقرار السياسي دوافع الهجرة واللجوء، أي الأسباب المرئية، فإن غياب العدالة واستشراء الفساد وتزايد أعداد العاطلين عن العمل وانسداد الآفاق أمام الشباب، إلى جانب الملاحقات السياسية والأمنية، هي الأسباب المستترة لركوب «قوارب الموت» بحثا عن أفق حياة أفضل، في معظم الدول الأخرى.

حكومات الدول التي ينتمي إليها المهاجرون تتحمل المسؤولية عما أوصل الناس إلى تعريض أنفسهم وأطفالهم إلى خطر الموت، فضعف معدلّ دخل الفرد وتراجع مؤشرات التنمية وازدياد الفقر، وتراجع جودة الحياة والصحة والتعليم، والاختلال في ميزان صناعة القرار لصالح فئة واحدة صغيرة متنفذة على حساب باقي الفئات، هي النتيجة المباشرة للفساد وانعدام ثقة الناس في المستقبل داخل بلدانهم، ما يدفعهم إلى الهجرة واللجوء. لكن العالم بأسره يتحمل المسؤولية، لا سيما دول الشمال الغنية، تلك التي لا ترى في دول الجنوب سوى ساحات صراعات تجعل التروس تعمل في مصانعها للسلاح، وأسواق للأدوية والبضائع، والآن موجات متلاحقة من الهجرة واللجوء لم تعد تعرف كيف تتعامل معها.

محمد اليحيائي - كاتب وروائي عماني