النمو والتنمية والميزانية العامة

04 فبراير 2023
04 فبراير 2023

استمتع هذه الأيام بقراءة كتاب للخبير الاقتصادي المصري، محمود محيي الدين. الكتاب بعنوان "في التقدم مربكات ومسارات"، وهو عبارة عن سلسلة مقالات نشرتها له بعض الصحف خلال الفترة بين عامي 2018 و2020. وقد ناقش الدكتور محيي الدين في كتابه هذا موضوعات مهمة في التنمية المستدامة، وعلاقتها بالتقدم والمربكات والتحديات التي تعترض مساراته. ومما يميز هذا الكتاب عن كثير من الكتب الاقتصادية المنشورة باللغة العربية أنه يتحدث عن الواقع الحالي للاقتصاد العالمي، وليس عن التاريخ الاقتصادي. وإذا ما جاز لي القول، فأقول إن صاحبه قد كتبه "بقلب مالي وعقل اقتصادي"، فهو يأخذ بعين الاعتبار القدرات المالية للدول ومخاطر الوقوع في فخ المديونية، ولكنه يرى في التنمية المستدامة ضرورة للتقدم، ويجب تحديد الأولويات من أجل استمراره. وقد وجدتُ في الكتاب كذلك ما يجمع بين التحدي والإرادة، وبين الفائدة والمتعة، كما وجدت فيه ما يساعد على تقديم قراءة وتحليل ولو بسيط عن الميزانية العامة للسنة الحالية 2023. لكن، وكما جرت العادة في أكثر مقالتي السابقة، لا بد من تعريفات ولو مبسطة لبعض المصطلحات الاقتصادية، التي قد لا يعرفها البعض من غير المختصين. ولأن عنوان المقال هو النمو والتنمية والميزانية العامة فلا بد من تعريف هذه المصطلحات، وذلك كما وردت في الأدبيات والمراجع الاقتصادية. يقصد بالنمو زيادة الإنتاج من السلع والخدمات خلال فترة معينة هي سنة، ويتم قياسه بنسبة مئوية من الزيادة المحققة في الإنتاج، مع استبعاد أثر التضخم، وفي ذلك تفاصيل تتعلق بالأسعار الجارية والأسعار الثابتة يعرفها المختصون. أما التنمية فهي نقل الاقتصاد من مستوى معين إلى مستوى أعلى منه، مثل نقل الاقتصاد الناشئ إلى اقتصاد متقدم، أو من اقتصاد بسيط إلى اقتصاد صناعي. وليس ذلك فقط وإنما الأهم منه رفع مستوى معيشة الناس وأعمارهم المتوقعة، وتحسين مستوى خدمات التعليم والصحة والبُنى الأساسية المادية وغير المادية، وزيادة فرص العمل وزيادة الإنتاجية وتوسيع ورفع مستوى شبكة الأمان الاجتماعي. ويقاس مستوى التنمية بواسطة ما يسمى بمؤشرات التنمية البشرية. ولا شك أن النمو الاقتصاد والتنمية مترابطان ترابطا وثيقا وإن كانا مختلفين من حيث المفهوم. يقول محمود محيي الدين في كتابه: إن النمو وحده لا يكفي لتحقيق التنمية، لكنه في المقابل يتعذر القضاء على تحديات الفقر والبطالة بدون نمو. ومن دون نمو اقتصادي يستحيل كذلك الاستمرار في سباق الأمم أو حتى البقاء فيه. وتعرف الميزانية العامة بأنها وثيقة تقدر فيها إيرادات الدولة وما يقابلها من مصروفات خلال مدة معينة هي سنة كاملة. وليس بالضرورة أن تبدأ السنة المالية في الشهر الأول من العام، وإنما هناك دول تضع بداية سنتها المالية في شهر آخر لمدة اثني عشر شهرا.

مثل آخرين غيري من المهتمين بقضايا التنمية، كنت أتساءل عن النسبة أو الحجم اللازم من الإنفاق في الميزانية العام أو من الناتج المحلي الإجمالي لتحقيق أهداف التنمية واستدامتها، وما هو الحد الأقصى من الدين العام الذي يجب أن لا تتعداه الدول قبل أن تزيد من الإنفاق العام. وقد أشرت إلى ذلك في مقال سابق نشرته لي جريدة عمان، والذي كان عن التقرير الذي أعده خبراء صندوق الدولي عن زيارتهم لعمان في شهر سبتمبر الماضي. ولأن هذا الكتاب قد كتب "بقلب مالي وعقل اقتصادي" كما قلت، فقد وجدت في بعض فصوله ما يجيب عن جانب من ذلك التساؤل.

أحد المقالات الذي تضمنها الكتاب المذكور كان بعنوان "من يتحمل تكلفة التنمية"، وذلك حسب الأهداف التي حددتها الأمم المتحدة للتنمية المستدامة خلال الفترة من عام 2015 إلى عام 2030. وقد أشار المقال إلى دراسة لصندوق النقد الدولي عن تكاليف التنمية المستدامة، شملت الدراسة 155 دولة، منها 34 دولة ذات اقتصاد متقدم و 49 دولة منخفضة الدخل و72 دولة ذات اقتصاد ناشئ. وقد حددت الدراسة المذكورة خمسة قطاعات لتقدير تكاليف تطويرها وفقا للأهداف المذكورة حتى عام 2030، وهي قطاعات التعليم والصحة والطرق الكهرباء والمياه. وتفاوتت الاحتياجات للإنفاق على كل قطاع من القطاعات المذكورة بحسب مستوى التقدم الاقتصادي لكل دولة، أي حسبما إذا كانت الدولة متقدمة أو ناشئة مرتفعة الدخل أو ناشئة منخفضة الدخل. ولمحدودية المساحة المخصصة لهذا المقال نذكر هنا الدول الناشئة ذات الدخل المرتفع، التى نرى أن منها سلطنة عمان. وقد أشار التقرير إلى أن القطاعات الأكثر احتياجا للإنفاق في الدول منخفضة الدخل هما قطاعا التعليم والطرق بمقدار 4 نقاط مئوية لكل منها، يليهما قطاع الصحة بمقدار 3 نقاط ثم قطاع الكهرباء ثم قطاع المياه. أما الدول الناشئة ذات الدخل المرتفع مثل عمان، فقد قدرت الدراسة المذكورة أن تكلفة تمويل تنمية تلك القطاعات فيها بحوالي 2.1 مليار دولار سنويا. وفي رأيي أن تلك التقديرات تنطبق إلى حد كبير على عمان، مع التحفظ على زيادة الإنفاق على قطاع الطرق، حيث إن عمان أنفقت الكثير عليها في الخطط التنموية السابقة، وأصبحت الآن تتمتع بشكة جيدة وواسعة شملت معظم مناطق البلاد.

حسب آخر المؤشرات فإن الناتج المحلي الإجمالي لعمان للعام الماضي 2022 قد بلغ حوالي 32 مليار ريال، أما مجموع الإنفاق في الميزانية العامة فقد قُدّر بحوالي 12.13 مليار ريال. وقد بلغ المخصص لقطاع الصحة في الميزانية حوالي 725.7 مليون ريال، وهو ما نسبته حوالي 6% من مجموع الإنفاق، ويبدو أن ذلك يشمل الإنفاق الجاري والرأسمالي والتنموي. أما نسبة ذلك المبلغ إلى الناتج المحلي الإجمالي، فهي متدنية. وقد خُصص لقطاع التعليم في ميزانية العام الماضي حوالي 1.634 مليار ريال، أي ما يزيد على 13% من إجمالي الإنفاق. وفي ميزانية العام الحالي 2023 قُدر مجموع الإنفاق بحوالي 11.350 مليار ريال، وهو مبلغ يقل عما كان عليه الإنفاق في ميزانية العام الماضي. أما المبلغ المخصص لقطاع التعليم في ميزانية السنة الحالية فقد قُدّر بحوالي 1.7 مليار ريال، أي ما يبلغ حوالي 15% من إجمالي النفقات. وبالنسبة لقطاع الصحة فقد بلغ إجمالي المرصود له في ميزانية السنة الحالية حوالي 792 مليون ريال، أي بنسبة 7%. والمبلغ المخصص للإنفاق في كلا القطاعين يشمل كما قلنا الإنفاق الجاري والرأسمالي والاستثماري. إلا أن الملاحظ أنه بالرغم من انخفاض إجمالي الإنفاق في ميزانية السنة الحالية عن ميزانية العام الحالي، فإن المبالغ المخصصة لكل من قطاع التعليم وقطاع الصحة قد زادت، سواء كرقم مطلق أو كنسبة من مجموع الإنفاق، وهو ما يدل على وجود خطة جيدة لتحديد الأوليات وإعادة توجيه الإنفاق نحو القطاعات الأكثر أهمية للمجتمع. وللمجتمع حاجات متنامية لاسيما في هذين القطاعين، الأمر الذي يتطلب المزيد من الجهد ورفع الإنفاق في هذين القطاعين إلى النسبة الملائمة من الناتج المحلي الإجمالي وليس من الميزانية العامة وحسب، وهي نسبة قدرتها دراسة صندوق النقد الدولي المشار إليها أعلاه بمتوسط 15% وذلك لتشمل قطاعات الطرق والكهرباء والمياه، إضافة إلى قطاعي الصحة والتعليم، مع إعطاء أولوية قصوى لقطاعي الصحة والتعليم.

وحيث إن الكثير من المحللين والخبراء يتوقعون استمرار عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي، ويرون أن هناك أزمات قادمة مصادرها متعددة، مثل الأوبئة والحروب وتعرض سلاسل التوريد للاضطراب، إلى جانب المخاطر السيبرانية وما قد تؤدي إليه من تعطل أنظمة الدفع والتحويل، فإن المطلوب اتباع سياسات حصيفة توازن بين حاجات المجتمع للتنمية والتقدم، وبين محدودية الموارد وهشاشتها، وكذلك تحديد الأولويات في الأنفاق والبحث عن مصادر وأدوات تمويل مناسبة، لا تثقل كاهل المجتمع.

* د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية