النظرة الواعية في اختيار الرؤية الثاقبة

06 أبريل 2022
06 أبريل 2022

لا شك أن الإمام محمد عبده، عندما اختار رهان الإصلاح المدني، وابتعد عن الجانب الثوري، كما شدد عليه أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، يُعدّ عملا جليلا ومهما، في مسار الإصلاح، وإيقاظ الأمة من أمرين خطيرين، وهما الجمود والتقليد المتراكم على واقعها، ودخول الاستعمار إلى البلدان العربية واحتلالها والسعي إلى تغريبها، وعندما فشلت الثورة العرابية ضد الاستعمار البريطاني -وقد كان للإمام عليها بعض الملاحظات في مقاومتها ضد الاستعمار- فبعد تقييم المسار العام لكل التحولات القائمة والأولويات وأيهما أجدى بالحراك والفاعلية في تلك الظروف، رأى الإمام أن الإصلاح الفكري والسياسي والتعليمي واللغوي، وبث روح التجديد والوعي، هو الذي سيكون له الأثر الإيجابي، ولو تأخر قليلا بفعل ظروف وجود الاستعمار. وما قاله البعض عن فشل الإصلاح، أو تعثره، أو إعاقته، فيه تجاهل للإيجابيات الكبيرة في فكر الأمة بعد وفاته رحمه الله، من خلال من حملوا رسالته من التلاميذ والنخب الواعية، خاصة في مؤسسة الأزهر، التي حملت فكره، واستطاعت أن تقوم بتجديد أفكار المؤسسات التي عُرفت بالجمود والتقليد، الذي أعاق الأمة لأكثر من قرنين ما جعلها تتوقف عن التجديد والنهوض، والخروج من تلك الظروف، التي أسهمت في دخول الاستعمار واحتلاله، ومن خلال هذا المنهاج الإصلاحي الذي تبنّته مؤسسات وهيئات وجمعيات في العالم الإسلامي، استطاعت أن تحرّك السكون القائم، وبفضل ذلك أخفقت أفكار بعض الخصوم عن التأثير وحرف مسار الإصلاح إلى تبنّي النُظم والمفاهيم الغربية، التي طالما سعى الاستعمار في ترسيخها داخليا وبعض النخب من بعده، وأصبحت أفكاره -كما يقول د. برهان غليون- «أساسا لنهضة حضارية، بل وأصبح الفكر الليبرالي الحديث نفسه مضطرا من أجل المحافظة على وجوده إلى التقرب من الإسلام والاحتماء به».

كما أن نقد البعض للإمام بسبب تواصله باللورد كرومر الذي كان ممثلا للاستعمار في مصر والسودان، أراها لا تمثل لحظة ضعف منه، بل نتيجة لظروف قائمة فرضت نفسها عليه والظروف: «تقدر بقدرها»، كما تقول القاعدة الفقهية، فالإمام وجد نفسه بين خيارات صعبة، فإما أن يبقى مهاجرا، وتبقى البلاد في حالها من الجمود والترهل ووجود المحتل، وإما أن يعود ويقدم ضرورة الإصلاح ودوره ومقاومة الجمود، مع التصالح مع ظروف ذلك الواقع، وشروط عدم النشاط السياسي، مع التحرك المتوازن واليقظ، وإيجاد الوعي، وطرح الأفكار التي تجسّد تطلعاته في إصلاح الواقع، وهذا ما حصل فعلا، ثم إن هذه الظرفية، لها مبررات حتى في العصر النبوي، ففي صلح الحديبية، اعتبر بعض الصحابة أن الشروط تعد مجحفة للمسلمين، واعترض بعضهم عليها، لكن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كونه مؤيدا بالوحي، رأى أن الأمر سيكون له الأثر الكبير للدعوة وانتصارها، وكانت مقدمة لفتح مكة، ولذلك أرى أن الإمام محمد عبده، بذكائه وفطنته واستقرائه للأوضاع في تلك الظروف، رأى أن إيجابياتها أكبر من سلبياتها مع أنها مجحفة له، ولذلك لا أتّفق مع بعض الآراء التي انتقدت الإمام، في بعض ما وافق عليه من شروط لعودته إلى مصر، وقدّم حركة الإصلاح على المواقف التي تم اعتبارها سلبية ومجحفة، إنما الأهم انطلاق فكرة الإصلاح وطرحها وانتشارها في إصلاح المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية، وإيجاد الوعي في الأمة حول محو الهوية، ومخاطر التغريب وتبعاته الفكرية والسياسية.

لذلك عندما طرح الإمام محمد عبده، قضية مدنية الدولة في الإسلام بوصفها مسألة بديهية كان محقا ودقيقا، فلم تأت قضية الدولة بنص من الوحي، لوجود الأركان الثلاثة بمقاييس عصرنا لقيامها: الأرض - الأمة - الشعب.

وهذا ما عبّر عنه الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (الدين والدولة وتطبيق الشريعة): إذ لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله «دين» متميز أو يقبل التمييز والفصل عن الدولة، كما لم تكن هناك قط «دولة تقبل أن يفصل الدين عنها / نعم كان هناك حكام اتّهموا بالتساهل في أمر من أمور الدين كالجهاد أو مقاومة البدع... إلخ، لكن لا أحد من الحكام في التاريخ الإسلامي استغنى، أو كان في إمكانه أن يستغني عن إعلان التمسك بالدين، لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدين والرفع من شأنه».

ويؤكد الدكتور الجابري هذه القضية الملتبسة، فمسألة فصل الدين عن الدولة ليس لها حاضن فكري في الإسلام، لتكامل الدين والدولة في مضامينه الفكرية والسياسية، ومعنى الفصل: «حرمان الإسلام من «السلطة» التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام (...)، ولماذا؟ لأن الدين... يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ وأن الدولة هي «السلطة» التي يجب أن تتولى الأحكام». فالدولة في الإسلام دولة مدنية وليست دينية، لأنها اصطبغت بهذا التطبيق المدني في القضايا العامة، وتقوم على الاختيار -كما أشار إلى ذلك الإمام محمد عبده في ردوده المشار إليها آنفا، وهو الذي أدخل مصطلح مدنية الدولة في الإسلام- وهذه الدولة كما يقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: «تقوم على البيعة والشورى، ويختار رجالها من كل قوي أمين، حفيظ عليم، فمن فقد شرط القوة والعلم، أو شرط الأمانة والحفظ، فلا يصلح أن يكون من أهلها، إلا من باب الضرورات، التي تبيح المحظورات. على أن الإسلام في مفهومه الصحيح، وتطبيقه السليم، لا يعرف مصطلح (رجال الدين) الذي عُرف في مجتمعات دينية أخرى، فكل مسلم رجل لدينه، وإنما يوجد علماء متخصصون في علوم الإسلام، وهم أشبه بعلماء الأخلاق والفلسفة والقانون في المجتمعات الأخرى». والواقع أن هذا الرأي الذي طرحه علي عبدالرازق يعد سابقة في الفكر الإسلامي، ذلك أن الإسلام وإن كان لم يعتبر الدولة والسلطة جزأين من الدين القطعي، لكن الدولة والسلطة ضرورة من ضرورات تطبيق شرائع الدين، لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وهذه الشريعة لا بد لها من الدولة والسلطة، وقد تحققت هذه الدولة في العصر الراشدي وما بعده، وهذه مسألة بديهية وضرورة عقلية للأمة وللمجتمع، لتطبيق الدين وتنفيذ أوامره وتكليفاته التشريعية. ولم يقل أحد إن الدولة والسلطة أمران إلهيان، وهذا ما أكده الإمام محمد عبده في أغلب ردوده على مُجادليه. والفقهاء المسلمون في أغلبهم عدّوا الإمامة من الفروع وليست من الأصول. وحتى المستشرق «برنارد لويس» المعروف بتعصبه ضد الإسلام، لم يجد مناصا من الاعتراف بمدنية الدولة عند تأسيسها في العصر الأول، قياسا بالنظام الروحي المسيحي، فيقول لويس: «الإسلام ليس مجرد نظام للعقيدة والعبادة أي مجرد جزء من الحياة منفصل عن الأجزاء الأخرى التي تبقى من اختصاص السلطات غير الدينية التي تعتمد القوانين غير الشرعية -مضيفا في فقرة أخرى- أن الخليفة أو الإمبراطور وهو رأس الدولة المسلمة، يجمع السلطة السياسية والدينية (...)، ولذلك فليس هناك صراع، كما لا يوجد تعاون، ولا فصل، كما لا يوجد ترابط، لأن المؤسسة الحاكمة في الإسلام كانت تجمع الوظيفتين».

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية: مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين».