النظام العالمي الرجعي غير الليبرالي حاضر معنا
23 نوفمبر 2025
23 نوفمبر 2025
كان من الشائع في الماضي الحديث عن «النظام الدولي الليبرالي». وحتى لو لم تكن الترتيبات المؤسسية المصاحبة له ليبرالية، أو دولية، أو منظمة بالكامل؛ فإن هذه التسمية كانت لها استخداماتها. في نهاية المطاف؛ ليس الغرض من أي مَـثَـل أعلى وصف الواقع، بل توجيه السلوك. ولعقود عديدة من الزمن كانت أغلب الدول تطمح لأن تكون جزءا من النظام الليبرالي، وأن تسهم في تطويره (حتى لو كان بعض الناس يفضلون الركوب بالمجان أو التلاعب بالنظام).
من الواضح أن تلك الأيام قد ولّت؛ فقد دخلنا حقبة جديدة من الفوضى العالمية. من الواضح أيضا أن صعود الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى على نحو ثابت كان ليشكل دائما تحديا للترتيبات التي أنشأتها القوى الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن العامل الحاسم في زوال النظام الدولي الليبرالي هو أن مهندسه الرئيسي الولايات المتحدة تخلى عنه. لم يعد القادة الأمريكيون يرددون التزام جون كينيدي «بدفع أي ثمن، وتحمل أي عبء، ومواجهة أي مشقة، ودعم أي صديق، ومعارضة أي عدو لضمان بقاء ونجاح الحرية». صحيح أن الولايات المتحدة لم تكن دوما متسقة في التمسك بالقانون الدولي، أو دعم الأمم المتحدة وشبكات التعاون المتعددة الأطراف التابعة لها، ولكن لا أحد يشك في أن هذا الصرح في غياب الدعم الأمريكي سينهار بالكامل كما يبدو أنه يحدث الآن. في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب الثانية أصبحت الولايات المتحدة صريحة في إدانة النظام الليبرالي القديم؛ حيث زعم وزير الخارجية ماركو روبيو أنه «لم يعد عتيقا باليا فحسب، بل تحول الآن إلى سلاح يستخدم ضدنا».
بحكم التعريف يستلزم النظام الدولي بعض القواعد المشتركة، لكن إدارة ترمب معادية علنا لأي قيود من هذا القبيل؛ فهي تنتهج صراحة سياسة تضع مصالحها الخاصة التي تحددها بنفسها فوق كل شيء آخر، وقد أثبتت استعدادها ـ بل حتى حماسها ـ لإلحاق الأذى بالأصدقاء والحلفاء في هذه العملية. تُـعَـد تعريفات ترمب العقابية مجرد جزء من القصة؛ فقد ضرب بالقواعد عرض الحائط بما في ذلك بفرض رسوم جمركية على الواردات لأسباب لا علاقة لها بالتجارة. وفي حين لا يزال الأمر في مستهله فلا شك أن الاقتصاد العالمي سيدفع ثمنا باهظا لعهد ترمب المدمر ـ وربما يكون الاقتصاد الأمريكي هو الأكثر معاناة في الأمد البعيد. الواقع أن مفهوم القانون الدولي ذاته شُطِب من عملية صنع السياسات الخارجية والاقتصادية الأمريكية. والنظرة التي ظلت سائدة لفترة طويلة للسياسية الجغرافية باعتبارها تنافسا بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية تبدو الآن في غير محلها تماما. ولا يتحدث ترمب ومعاونوه عن حقوق الإنسان إلا بشكل انتقائي، كما كانت الحال عند إطلاق مزاعم كاذبة حول ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد المزارعين من ذوي البشرة البيضاء في جنوب أفريقيا (في الوقت ذاته لا يُـذكَر الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية إلا بالكاد).
لقد نشأت ردة فعل عنيفة مفهومة في الولايات المتحدة ضد «الحروب الأبدية» في أفغانستان والعراق فضلا عن اعتراف متأخر بأن الدول الأجنبية لا يجوز ببساطة إعادة ترتيبها بإملاءات من الولايات المتحدة. لا شك أن لحظة «القطب الأوحد»؛ حيث تنفرد الولايات المتحدة بقوة منقطعة النظير ـ بين سقوط سور برلين وظهور الصين كقوة تكنولوجية عظمى ـ أفسحت المجال للغطرسة الأمريكية.
ولكن الآن تحول البندول في الاتجاه الآخر؛ فمن جرينلاند إلى قناة بنما أصبحت الولايات المتحدة محركا للفوضى الدولية، وانضمت إلى أمثال روسيا بحربها ضد أوكرانيا وحرب الظل المتصاعدة على الاتحاد الأوروبي. من ناحية أخرى؛ تنزلق مناطق شاسعة من القرن الأفريقي إلى السودان مرورا بالساحل إلى الصراع والفوضى، ولا يبدو أن أحدا يبالي.
الواقع أن الولايات المتحدة مشغولة بحربها «المختارة» الصغيرة الجديدة ضد نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا. على الرغم من قوتها الصناعية ومواردها البحرية المتزايدة؛ فمن غير المرجح أن تشغل الصين الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة.
حتى وقتنا هذا كان الصينيون يخطون بحذر، ويقاومون بشدة ما يعتبرونه تنمرا من جانب الولايات المتحدة، لكنهم يمتنعون عن التدخل في صراعات عديدة حول العالم. تريد الصين صراحة نظاما عالميا جديدا، ولا ترغب في استمرار النظام الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة والذي ساد لثمانية عقود من الزمن بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن لا يوجد نظام جديد يلوح في الأفق.
لقد دخلنا فترة من الفوضى العالمية؛ حيث تكتسب الأنظمة غير الليبرالية زخما متزايدا، وتتفكك الهياكل الدولية القديمة. قد تكون هذه الاتجاهات خطيرة بالقدر الكافي بمعزل عن بعضها بعضا، وهي أشد خطورة في مواجهة تغير المناخ، ومخاطر الجوائح المرضية، والتكنولوجيات التي قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار مثل الذكاء الاصطناعي. الحق أن التعاون اللازم لإدارة هذه التهديدات ليس في متناول اليد. وإذا كان عصر الفوضى العالمية هذا ينطوي على أي أمل فسوف يكون مكمن الأمل في تحالفات متعددة الأطراف تركز على قضايا بعينها: القواعد التجارية، والصحة العالمية، وتحول الطاقة بين أمور أخرى. وسوف يكون لزاما على الدول التي تدرك المخاطر التي نواجهها أن تجد طرقا جديدة للتكاتف من تلقاء ذاتها.
كارل بيلت رئيس وزراء ووزير خارجية السويد السابق
خدمة بروجيكت سنديكيت
