الميزان الاستراتيجي .. ومحددات الدولة العميقة

27 مارس 2022
27 مارس 2022

ينظر إلى الدولة العميقة اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ بعين الأمل عندما تستطيع تحقيق معادلة الميزان الاستراتيجي على كافة الأبعاد المعززة لوجود الدولة، وقوة النظام السياسي، بالإضافة إلى قدرتها على التأثير على القرار السياسي العالمي؛ خاصة إذا امتلكت مجموعة من الأدوات في أبعادها الجيوسياسية، والسياسية، والاقتصادية، والأنظمة التشريعية المؤثرة على التنظيم المؤسسي في الداخل، والارتقاء بمستوى القرار المؤسسي، وتجفيف منابع الرأي الأوحد، بالإضافة إلى قدرتها على احتواء التنوع العرقي، والديني، والمذهبي، بحيث يمثل ذلك كله قوة قادرة على تعزيز الجبهة الداخلية عند الضرورة، مع قدرتها أيضا على التوافق مع العالم الخارجي بما لا يخل بمصالحها الخاصة؛ بالدرجة الأساس؛ فبكرة الثلج هذه، يمكن أن تُحَيِّدْ الدولة العميقة مجمل قراراتها السياسية، والاقتصادية؛ على وجه الخصوص؛ ولن ينازعها عليها أحد، وفي المقابل متى تضعضعت أركانها عن سياقاتها الطبيعية، وسلمت نفسها؛ واستسلمت لمجموعة قوى المصالح الخاصة فقدت هيبتها، وأرخلت سدولها وفق ما يذهب إليه التعريف التالي.

يعرف عباس شريفة - مؤلف كتاب «الثورة والدولة العميقة» - مصطلح الدولة العميقة بالنص التالي: (التحالف العميق الذي يجمع بين مركب بنيات الدولة المختلفة من إداري وسياسي وإعلامي، ومؤسسة عسكرية واستخبارات، وقضاء ومثقفين وعلماء دين وأصحاب أموال، تربطهم جميعا «رابطة» واحدة هي الإبقاء على مصالحهم وامتيازاتهم الخاصة، واستثنائهم من أي محاسبة أو مساءلة، وعدم تعرضهم لأي متابعة قضائية إن اهتز النظام القائم.

والمصالح المشار إليها تشمل المشروعات التجارية والمالية والمؤسسات الإعلامية، كما تشمل العلاقات الاجتماعية والعائلية، والانتماءات الجهوية وعلاقات المصاهرة وغيرها. والأصل في هذا كله أن هذه العلاقات ذات طبيعة شبكية تربط ما بين كل المتنفذين في الدولة الاستبدادية) - ناقل التعريف؛ الدكتور صديق أمبده؛ عبر مقال له تحت عنوان: «لا تستخفوا بالدولة العميقة في السودان» يوليو 2021م؛ دابنقا؛ راديو أو لين.

يحل الميزان الاستراتيجي في أي نظام سياسي كأهم مقياس لمعدل النمو في أركان الدولة المختلفة، ومكوناتها العضوية الأخرى، وهو ميزان غير مادي؛ كما هو معروف؛ ولكن تظهر آثاره على الواقع المعاش من خلال مجموعة من النتائج في جوانب هذه الأركان، وهذه المكونات، وذلك من خلال شيوع الرضا العام الذي يجسده التوضيح التالي: «لن تنجح الإصلاحات على المدى البعيد ما لم تدرك شرائح واسعة من المجتمع أن لها مصلحة في نجاحها، وأنها قادرة على العمل من اجل تلك المصالح - وهذا تطور يتطلب تنافسا سياسيا ملتزما ومستداما» - حسب مايكل جونستون؛ مؤلف كتاب (متلازمات الفساد) - وكذلك من خلال حالات التوافق مع الآخر عبر علاقات التكافؤ، وتبادل المصالح، والاحترام المتبادل، وعلى الرغم من بساطة التنظير في هذا الأمر، إلا أنه لن يكون الأمر مستحيلا تحقيقه، وإن اضطر النظام في الدخول في معارك، ومناورات للوصول إلى الميزان الاستراتيجي، فإن ذلك من مهامه الأساسية، وما يستوجبه الفهم الوطني الصادق، والمسألة شديدة التعقيد، لوجود مجموعة من التشابكات، والتقاطعات بين مكونات المجتمع، بدءا من مجموعة المصالح الخاصة، مرورا بمصالح المتبادلة بين الطرفين: النظام والمجتمع، وصولا إلى مصلحة الوطن العليا، التي تأخذ بعدا مختلفا يتجاوز كل المصالح الأخرى، ويتسامى عليها إلى حد التضحية بالنفس والمال، فالأوطان؛ يقينا؛ لا تقبل تحت أي ظرف أن يكون هناك مقاولون من الداخل، فمكمن قوة الأوطان بما فيها الأنظمة هي قوة الداخل، ومتى نظر الآخر في قوتك هذه المدعومة من الداخل، لا شك زاد احترامك عنده، وأيقن أن هذا الوطن؛ أو ذاك؛ مصان الجانب، وذو شكيمة، لا تسقط هامته، ولا يذل من فيه.

إلى أي حد تلعب المصالح والعلاقات المتشابكة في تعزيز الدولة العميقة، أو تعيق تقدمها؛ نظرًا لمستجدات الأحداث بين مكوناتها الأساسية: في السياسية، والاقتصاد، وفي الثقافة والاجتماع، وفي بقية المعززات الفسيفسائية الأخرى، والتي في كل أحوالها تعمل لأن يكون لها موضع قدم على امتداد مساحة الدولة العميقة؟ قد ينظر إلى تشابك العلاقات على أنها قد تخل بمكتسبات الدولة العميقة، فمجمل المصالح المتشابكة مع الآخر، تفترض نوعا من التنازلات، وغض النظر عن كثير من المحددات، وهذه التنازلات قد لا تتوافق مع القرار المؤسسي فيها، وبذلك قد يتطور الأمر بالزج بالقرار المؤسسي في متون الخلاف، فيتصدر القرار الواحد المشهد، وبذا قد تفقد الدولة العميقة هيبتها، ولذلك يرى مايكل جونستون - حسب المصدر أعلاه - أن «أهم حقيقة بالنسبة لفساد حكومة الأوليغاركات والعائلات هي أن النخب الاقتصادية والسياسية الطموحة التي لا تشعر بالأمان. ففي مناخ من التناحر وانتشار الفرص السريعة النمو والضعيفة مؤسسيا يقوم أولئك ببناء دعم شخصي يمكنهم من استغلال الدولة والاقتصاد في وقت واحد، وحماية مكاسبهم ومصالحهم بكل وسيلة ممكنة» -انتهى النص- وهذا ما يقوض؛ بالفعل أركان دولة المؤسسات، وهي الدولة التي تتنازع في كثير من المواقف مع مفهوم الدولة العميقة، لكون الأخيرة تنتصر للمؤسسة، أكثر من صوت الفرد، وهذه هي النقطة الفاصلة بين مفهومي الدولة العميقة، ودولة المؤسسات.

يستدعي الطرح هنا أيضا؛ طرح السؤال التالي: هل يتقاطع التنظيم الهرمي مع التكامل المؤسسي؛ فيؤثر على مجموعات الأعمال والمشروعات لدى الدولة العميقة، أو أنه يبقى من الضرورة بمكان وجود الاثنين؛ بحيث لا يستحوذ أحدهما على اختصاصات الآخر، وعلى مجموعة الصلاحيات التنفيذية التي تخدم الهدف العام؟ يبقى من الضرورة بمكان معرفة أن التنظيمات الهرمية في بعديها المؤسسي التنموي، والمؤسسي السياسي، يعد إحدى الركائز المهمة في الأنظمة السياسية، وذلك ما يعبر بالضرورة على قدرة الأنظمة في إيجاد بيئة آمنة لأوطانها، حتى وإن ظهر للمراقبين غلبة الصوت الواحد في اتخاذ القرار، سواء بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، فالنظام الهرمي لا يتقاطع مع مفهوم الدولتين: العميقة والمؤسسية، بل لعل في التنظيم الهرمي «الهيكلة» من شأنه أن يعزز الأدوار الإيجابية لمفهوم الدولتين، حتى يظل هناك نوع من الحاكمية المعززة لهيبة الدولة، وحتى لا تتنازعها القوى الجانبية، ولذلك ينظر إلى (التنظيم الهرمي «الهيكلة») على أنه المرجعية، أو الحاضنة، التي لا بد أن تبقى في العرف السياسي.

يُقَيَّمُ تكامل المؤسسات في سعيها إلى تحقيق الهدف الواحد بأنه أحد المعززات التي تخدم توجهات الدولة العميقة، وإن حدث أن فقدت هذه الصورة التوافقية في أي نظام سياسي؛ فإن في ذلك إيذانا بضعفها، والذي يؤدي في نهاية الأمر إلى زوالها، وعودة الشعوب مرة أخرى إلى مربعها الأول للبحث عن بديل، وهذا البحث هو ما يجر وراءه الكثير من المخاوف، خاصة إذا كان هناك أعداء متربصون بالدولة العميقة، سواء في حدودها الجيوغرافية، أو الجيو سياسية، فالجغرافيا وما تشكله من أهمية استراتيجية، تعد أحد أهم مسببات معاناة الدولة، في بعديها العميق والمؤسسي على حد سواء.

تتجسد الصورة العالمية اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ في كثير من تفاصيلها الصغيرة والكبيرة على المشهد العام، حيث يعيش الجميع على تفاعلات الأحداث ومنغصاتها، فلم نعد نحتاج إلى كثير من إرهاق الذهن لمعرفة نتائجها على المدى القصير، فضلا عن المدى البعيد، فالجميع على المسرح لمراقبة مختلف الأنظمة السياسي؛ في تعاركاتها، وفي اختلافاتها، وفي تصادماتها المباشرة، ومكامن القوة والضعف عند كل طرف، ومجموعة القوى المؤثرة على مختلف الأطراف؛ إما داعمة، وإما محبطة، وإما محايدة، ليقف كل منا بعدها على قناعة ما، بأن الواقع لم يكن افتراضيا، وبأن هناك حرقًا للمراحل فعلا، يسرع في حرفها مجموعة المناورات، والمماحكات، والتفاتات، وكلها متروك عمر بقائها للأقوى، وللأحكم، ولمن يدخر الكثير من أرصدته المادية والطبيعية، والبشرية، وتبقى القوة البشرية هي الرهان الأخير للبقاء والاستمرار.

______

* أحمد الفلاحي - كاتب وصحفي عماني