المقاومة ضرورة وجودية
ما معنى المقاومة؟ وما أهميتها ودلالتها بالنسبة إلى وجودنا الإنساني؟ أقول «وجودنا الإنساني»؛ لأن المقاومة طبيعة مفطورة في الوجود كله، بما في ذلك وجود الأشياء الجوامد، وهو ما يُعرَف في علم الطبيعة بالقوة والمقاومة، وهذا هو أحد أشكال الصراع في الطبيعة الذي أطلعنا عليه بالتفصيل شوبنهاور. وهذا الصراع يُوجَد أيضًا بقوة في مملكة الحيوان، وهو صراع من أجل القوت، والمحافظة على النوع، أي صراع من أجل البقاء.
بقي هذا الأصل لمعنى المقاومة في الوجود الإنساني، ولكن المقاومة في حالة الوجود الإنساني لها دلالة أبعد من ذلك بكثير؛ فالمقاومة في حالة الإنسان لا تكون فحسب من أجل حفظ النوع أو بقائه، وإنما تكون في المقام الأول من أجل الدفاع عن القيم الإنسانية، وأولها العدل والحق ومقاومة الظلم، وتلك أمور لا تعرفها الموجودات غير الإنسانية. هذه المقاومة هي الدليل الحي على أننا موجودات إنسانية حقيقية؛ فمن دون مقاومة الظلم والعدوان نصبح موجودات بلا معنى؛ مجرد كائنات لا عاقلة تحيا مثلما توجد الموجودات الجماد التي لا تعرف المقاومة إلا باعتبارها ظاهرة طبيعية غُفل.
لقد تبدت المقاومة الإنسانية عبر التاريخ لدى كل الشعوب في أشكال متنوعة، أبرزها المقاومة المسلحة للاحتلال العسكري مثلما جرى في العصر الحديث في مقاومة الاحتلال النازي في أوروبا، ومقاومة الاحتلال الأمريكي في فيتنام. ولكن المقاومة تتخذ أحيانًا شكلًا سلميًّا، مثلما جرى في المقاومة الهندية بزعامة غاندي للاحتلال الإنجليزي، وفي مقاومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا.
وقد تتخذ المقاومة شكلًا آخر يتبدى في مقاومة قهر وقمع الحكومات لشعوبها، وذلك من خلال المظاهرات والانتفاضات التي تصل إلى حد الثورات. وفي ضوء هذا يمكن أن ننظر إلى مقاومة الشعب الفلسطيني التي تجري الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ فكيف يمكن تصنيف هذه المقاومة في هذا الإطار؟
الحقيقة أن مقاومة الشعب الفلسطيني تظل حالة خاصة متفردة؛ بحيث يصعب تصنيفها في الأطر التقليدية لأشكال المقاومة. حقًا إن هذه المقاومة كانت دائمًا من أجل دفاع هذا الشعب عن أرضه ضد الاحتلال الإنجليزي، ومن بعد ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولكن مقاومة هذا الشعب -التي تواصلت في العقود الأخيرة، وبلغت ذروتها في الحالة الراهنة- تظل لها خصوصياتها التي تجعل منها حالة نادرة تشكل مثلًا أعلى لكل مقاومة مسلحة، وهذا يمكن إيضاحه فيما يلي:
تتزعم المقاومة الحالية في فلسطين حركة حماس وكتائب القسام وسرايا القدس، وهي تقاوم العدوان الصهيوني المتواصل بأسلحة بدائية في مواجهة آلة عسكرية جبارة مدعومة بأعتى الأسلحة المتطورة في العالم، وفي هذا تكمن المفارقة الحقيقية التي تستدعي التأمل: كيف يمكن أن تقف الأسلحة البدائية في مواجهة أعتى الأسلحة؟ تنبع المقاومة من الإيمان بقوله تعالى: «كُتب عليكم القتال وهو كُره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم»، وقوله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم»، ولكن هذه المقاومة لا تملك شيئًا يُذكر من رباط الخيل أو من السلاح (بمنطق عصرنا)؛ ولذلك فإننا ينبغي أن نفهم «القوة» هنا من خلال التأويل.
القوة هنا لا تكمن فحسب في قوة السلاح، وإنما أيضًا في قوة إيمان المقاومة بالقضية التي تدافع عنها. ومع ذلك؛ فإننا لا يمكن أن نختزل القوة هنا في المقاومة المسلحة لحماس والفصائل الفلسطينية، وإنما في قوة هذا الشعب الذي يدافع عن قضيته بالغالي والنفيس؛ وبذلك فإنه يدعم مقاومته المسلحة.
الشعب الفلسطيني شعب مُذهل لا نجد له نظيرًا في المقاومة والصمود؛ شعب يعاني الإبادة يوميًّا بشكل منهجي لا نظير له في التاريخ الإنساني إلا في إبادة الغزاة الأوروبيين لسكَّان أمريكا الأصليين. شعب يواجه القتل الوحشي حتى للمرضى في المستشفيات وللنساء والأطفال بمن فيهم الأطفال الرضع، بل يواجه حصاره، وتجويعه، وقتله في أثناء سعيه للحصول على الكفاف ما يسد الرمق، ويُبقي على الحياة؛ وكل ذلك بهدف مخطط إجبار هذا الشعب على التهجير إلى سيناء المصرية، والأردن، أو إلى الخارج، ولكي يكون ذلك مقدمة لتوسع الكيان الصهيوني فيما بعد. ذلك هو المخطط الصهيوني المدعوم من الغرب بزعامة أمريكا، وذلك هو مخطط تشكيل الشرق الأوسط الجديد الذي يُرَاد لهذا الكيان أن يهيمن عليه لحساب الغرب.
وعلى الرغم من ذلك كله؛ فإن الشعب الفلسطيني يظل صامدًا على أرضه في مواجهة هذا المخطط وكأنه يدافع عنا جميعًا أو بالنيابة عنا نحن العرب؛ ولذلك فإنه يدعم مقاومته المسلحة من خلال إرادته القوية في المقاومة رغم كل ما يعانيه من قسوة غير إنسانية لا يحتملها بشر؛ ولذلك فإننا لا يمكن أن نلوم هذا الشعب أو أيا من أفراده إن كفر بفصائله المسلحة، وثار عليها، وآثر التخلي عن روح المقاومة. ولقد كانت هناك محاولات شريرة لإثارة هذه الروح الاستسلامية الرافضة للمقاومة والمناهضة لها، ولكنها فشلت حتى الآن. وكل هذا يؤكد لنا على أن روح المقاومة متأصلة في طبيعة هذا الشعب الفريد على نحو لا نجد له نظيرًا في عالمنا الراهن. وربما يكون هذا هو ما دفع الشعوب والجماعات والأصوات الحرة في عالمنا إلى الوقوف بجانب قضية هذا الشعب العادلة، والدعوة إلى تحريره من الاحتلال والإبادة والظلم الواقع عليه على مرأى ومشهد من العالم الذي لا تفعل دوله ومؤسساته الرسمية المتعاطفة مع قضيته سوى الشجب والإدانة والاستنكار، فما بالك بدوله ومؤسساته المتواطئة؟
