المعرفة.. بين الوفرة المُمتنعة ونُدرة الوفرة

05 ديسمبر 2022
05 ديسمبر 2022

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي استلم رالف ستير رئاسة جونسون فيلي، وهي شركة عائلية ناجحة للأطعمة، كانت أرباح الشركة آنذاك أعلى من المتوسط بالمقارنة مع معظم قطاعات التصنيع الغذائي، وكان معدل النمو يقارب العشرين في المائة، حيث كانت المبيعات قوية في الولاية الأم ويسكونسن وتزايدت بإطراد في مينيسوتا وميتشيغان وإنديانا، تميزت المنتجات بالجودة العالية نسبياً، إذ تفوقت على معظم المنافسين المحليين، ومع كل هذه المؤشرات المستقرة كان هناك ما يقلق الرئيس التنفيذي للشركة، لم تكن المنافسة وإنما الفجوة بين الإمكانات والأداء.

لاحظ رالف ستير بأن أداء الشركة أدنى بكثير من أن يحظى بمزايا تنافسية على المستوى الوطني، وبذلك فإن هذا الاستقرار الذي تظهره المؤشرات تنطوي تحته مخاطر أعمق وأكبر تهدد عمل الشركة وبقائها وحصتها في السوق، بدأ ستير في البحث عن وصفة للتغيير، وسأل نفسه هذا السؤال: "في أفضل العوالم الممكنة، ما الذي نريد تحقيقه من خلال شركة جونسون فيل؟" كان التحدي الأكبر أنه لم تكن هناك أهداف استراتيجية للشركة حتى يمكنه إدخال التغيير عليها، كان الموظفون و العمال يحضرون للعمل كل صباح لتقديم الخدمة المتوقعة من عملائهم، ويكررون ذلك في كل مرة مع التركيز على النواحي التشغيلية فقط، مثل توفير المواد الخام وصيانة الآلات وتنظيم مواعيد التسليم واختبار جودة المنتجات، كانت جميع هذه العمليات تتم بطريقة دقيقة ومنظمة، فالرئيس التنفيذي يشرف على كل التفاصيل الإدارية والمالية مثل هوامش الربح وحصة السوق والعائد على الأصول، وكان يضع الحلول لجميع المشكلات، ويتحمل مجمل الحالة التنظيمية النهائية للعمل.

لم يكن الرئيس التنفيذي لشركة جونسون فيل راضياً عن عمل الشركة رغم نجاحها مالياً، بدأ بتنفيذ دراسة استقصائية عن "الغاية الحقيقية" ملوظفي الشركة لديه، ولماذا يجب أن يلتزموا بجونسون فيل؟ وما هي التغييرات الهيكلية التي برأيهم سوف تحسن من نتائج الشركة؟ وما هي الخطط الاستراتيجية والتكتيكية التي تنقص الشركة لرفع المسؤولية الفردية في تطوير أداء الشركة وتوظيف جميع الإمكانيات؟

جاءت نتائج الدراسة الاستقصائية مذهلة، وقادت رالف ستير إلى القرار الاستراتيجي الأول الذي كان بحاجة إلى اتخاذه، وهو عدم انتظار الحصول على جميع الإجابات، بل عليه تغيير شيء ما من أجل تغيير التوقعات، والبدء في التحرك نحو الأهداف الجديدة، بدأ بتغيير النظام الأكثر وضوحًا والذي يتحكم فيه بشكل مباشر، بدأ بإدخال التغيير الجذري في نظام إدارة الموارد البشرية في جونسون فيل، سمح بتوسيع دائرة المسؤوليات، أصبحت الدورات التدريبية جزءً أساسياً في العمل، استحدث فريق دعم التعلم المستمر والتطوير، وتم إعطاء المشرفين أدوراً في عملية التخطيط وصنع القرار، من مبدأ أن أولئك الذين ينفذون قرارًا ويتعايشون مع عواقبه هم أفضل من يتخذونه.

ظهرت باكورة ثمار التغيير في التطورات الفنية في الأقسام المعنية بتطوير الجودة، كذلك بدأت حوادث وأخطاء التصنيع في التناقص التدريجي، شرعت فرق العمل في المبادرة واقتراح ومناقشة الأفكار الابتكارية، وفي وقت قصير ذاع صيت جونسون فيل بأنها "الشركة التي لا تتوقف عن التعلم"، وصرح ستير وقتها بأنه: "لوقتٍ قريبٍ كانت المصادر الطبيعية أهم مصدر للثروة الوطنية، وكذلك من أهم موجودات الشركات، ومن ثمَّ أصبح رأس المال المتمثل بالنقد والموجودات كالآلات والمصانع هو المهم، أما الآن فقد حل محلها القدرة العقلية لتكوين رأس المال الفكري".

كان ذلك منشأ المصطلح المحوري للاقتصاد القائم على المعرفة، إذ تؤكد المراجعة التاريخية بأنه لم يرد مصطلح "رأس المال الفكري" قبل هذا البيان التاريخي لرالف ستير، الذي عزز من أهمية المعرفة كأحد مفاتيح النجاح، وأهم الأصول الاستراتيجية التي لا تقل مكانةً عن الموجودات المادية، فالمعرفة هي أقوى الموجودات التي تمتلكها المؤسسات وأكثرها قيمةً، لأنها تنبع من القوة العلمية والفكرية للعقل البشري، وهي بذلك مصدر لا ينضب، ومع تميزها بالوفرة تحتفظ المعرفة بالتفرد وعدم القابلية للتقليد، وهذا ما أكسب رأس المال الفكري البعد الاستراتيجي للقدرات الابداعية التراكمية لأي مؤسسة، فالقاعدة المعرفية تؤكد بأن المعرفة تنتج معرفة أخرى، وتراكم هذه المعارف والخبرات يذكي الروح الابتكارية التي هي جوهر تحقيق التميز والتنافسية.

على الرغم من أن مصطلح رأس المال الفكري كان محل اهتمام من قبل المفكرين والممارسين والأكاديميين منذ ظهوره، إلا أن الفترة من منتصف التسعينيات من القرن الماضي وحتى بداية الألفية الثالثة كانت مرحلة مِفْصَلية، من حيث تكثيف الجهود البحثية وولادة نظرية رأس المال الفكري، ففي عام 2003 عُقد المؤتمر الدولي الأول حول مفهوم رأس المال الفكري وإدارته، تم فيها تحديد مفهومها الأساسي الذي مفاده "المعرفة الموجودة وغير الملموسة التي يمكن تحويلها إلى ربح"، وكذلك تم تعريف الخصائص الهامة لرأس المال الفكري، وفي مقدمتها حركية المفهوم من حيث أنه غير ثابت، ويتميز بالتجديد والنمو والقدرة على التكامل والتفاعل المستمر، ونظراً للحداثة النسبية لهذا المفهوم وتنوع اهتمامات الباحثين فقد اختلفت الفروع العلمية التي تناولت رأس المال الفكري بين علوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي وعلوم النفس، وذلك تبعاً للمنطلقات التي رافقتها مثل منطلق المكون البشري أو الموجودات المعرفية غير الملموسة.

فقي سياق المكون البشري يمكن تعريف رأس المال البشري بأنه مجموعة حاملي المعرفة والخبرات والحكمة الذين يقدمون الاسهامات الفكرية، التي تكسب المؤسسة ميزة تنافسية وأداءً ناجحاً، أما في حال كان تركيز مفهوم رأس المال الفكري على الموجودات المعرفية فإنه يعكس بذلك الموجودات التنافسية غير الملموسة، التي تكون بمثابة الأصول الاستراتيجية التي توجه عوامل النجاح الحاسمة للمؤسسة، وهي تضم مجموعة من الأرصدة غير الملموسة مثل المعارف الكامنة والصريحة والضمنية، والمهارات والخبرات العملية، والعلاقات الاجتماعية والتنظيمية، ومحصلة التفاعلات بين هذه الأرصدة الناتجة عن رأس المال البشري ورأس مال العلاقات وبين رأس المال الهيكلي للمؤسسة الذي يحتوي الموجودات الفكرية وحقوق النشر وبراءات الاختراع، وأنظمة المعلومات وقواعد البيانات ونماذج وأسرار العمل.

وبالعودة لقصة نجاح شركة جونسون فيل فإن رأس المال الفكري أصبح من أكثر الأصول قيمةً في الاقتصاد القائم على المعرفة، وبالتالي فإن الإدارة الفاعلة لهذه الأصول يعتبر عاملاً رئيسياً في تحديد القدرة التنافسية للمؤسسات، في ظل التغييرات الديناميكية المتلاحقة لبيئة الأعمال المعاصرة، وعلى الرغم من أن مفهوم رأس المال الفكري نشأ في بيئة الأعمال التجارية، بسبب الحاجة إلى توظيف المعرفة لاكتشاف فرص الأعمال الجديدة، وتعزيز الميزة التنافسية للشركات ومؤسسات القطاع الخاص، إلا أن المؤسسات الأكاديمية والبحثية ومؤسسات القطاع الحكومي كان لها السبق في تبني طرق وأساليب مختلفة في الإدارة المتكاملة لرأس المال الفكري.

فظهرت العديد من ممارسات إدارة رأس المال الفكري بهدف تحقيق الميزة التنافسية المستدامة للمؤسسة، وذلك بإدماجها في الخطة الاستراتيجية للمؤسسة وثقافتها ورسالتها وفلسفتها الإدارية وعملياتها الروتينية، حيث توجهت الكثير من دول العالم إلى تشجيع مؤسسات القطاع الحكومي في وضع خطة منفصلة لإدارة المعرفة على المستوى المؤسسي، وذلك من منطلقين رئيسين أولهما تفعيل القيمة التنظيمية من اكتشاف العناصر الإبداعية للمؤسسة، كون أن رأس المال الفكري ليس حكراً على مستوى إداري دون غيره فهو مزيج الفكرة والخبرة والممارسة، وثانيا من منطلق الترابط بين البعد المعرفي والبعد الوجودي، حيث إن الموجودات الفكرية من المهارات والخبرات تكون متاحة للمؤسسة فقط مع وجود حاملي هذه المعرفة، وهي معظمها تكتيكية مما يعني أنه من الصعب الوصول إليها بالتقليد، إذ تعمل بطريقة معقدة للغاية، مثل المعرفة المستخدمة في إنتاج السيارات بشركة تويوتا، إذ يؤكد المتخصصون بوجود علاقة تنظيمية على المستوى المعرفي والابتكاري والاجتماعي نتجت عنها المعرفة المتخصصة التي تطورت عبر عقود، وأكسبت الشركة السمعة التجارية اللامعة، كذلك تكررت هذه الظاهرة مع شركة شارب، عندما استخدم المهندسون والباحثون والمبتكرون معرفتهم لإنتاج شاشات مسطحة، فتبوأوا الريادة في سوق الأجهزة الالكترونية الحديثة بقيمة سوقية فاقت سبعة مليارات دولار .

إن تطور المجتمع ما بعد الصناعي، المشبع بمختلف الأنماط التكنولوجية، والتغير الجذري في محتوى العمل المؤسسي، ساهم في تزايد دور المعرفة والعامل البشري في الإنتاج، وفرض الحاجة لنموذج إدارة رأس المال الفكري بهدف توسيع قدرات المؤسسة من خلال تكوين واستخدام وإعادة إنتاج الأصول الفكرية والمعلوماتية الفريدة، والمهارات المهنية النادرة، والخبرات التراكمية عالية الجودة، التي يصعب أحياناً إيجاد بديلٍ عنها، فالخبرة الممزوجة بالسمات الفردية الاستثنائبة عنصرٌ حاسمٌ في تكوين القيمة المضافة للموارد الفكرية.

وعلى الصعيد العملي فإن معظم استراتيجيات صناعة رأس المال الفكري الناتجة من التجربة العالمية تقوم على ثلاثية "اكتشاف وتنشيط واستدامة" الموارد الفكرية للمؤسسة، مع التركيز على التجديد في الثقافة التنظيمية، وتحويلها لثقافة داعمة عبر القيم المؤسسية الإيجابية، وأسلوب التفكير المشترك، وامتلاك الرؤية الاستراتيجية المحفزة للإبداع والابتكار، وتوجيه الموجودات الفكرية والطاقات المعرفية لابتكار القيمة المضافة في العمليات والخدمات، ووضع آليات فاعلة للبحث عن الخبرات المتقدمة والمهارات النادرة واستقطاب المتميزين، فالمعرفة والمهارة المكتسبة من الخبرة العملية هي أرسخ وأعمق من المعرفة النظرية البحتة، مما يستوجب تعزيز نظم فعالة لرفع كفايات الموارد البشرية، عن طريق التعليم التنظيمي والتدريب الإثرائي والتعلم الذاتي المستمر، وبناء الأنسجة الفكرية على مختلف المستويات الإدارية، وتعزيز القيادة الذكية.

وعلى الرغم من وفرة المعرفة الصريحة التي يمكن قياسها وإدارتها، إلا إن التحدي الأكبر في قياس رأس المال الفكري يكمن في صعوبة التكهن بالعوائد المستقبلية من مكونات الموارد الفكرية، والعوائد المحتملة للثراء المعرفي، مما يفرض على المؤسسات ضرورة وضع خطة الاستثمار الممنهج والاستغلال الأمثل لهذه الأصول، بتحويلها إلى رأس المال الهيكلي، وتحديد دور المعرفة في المؤسسة كمدخل وعملية ومخرج، وتحليل الأصول المعرفية الداعمة لمخرجات المؤسسة ومعدل تنافسيتها، من أجل قياس مدى اعتماد المؤسسة على حاملي هذه المعرفة القادرين على تقديم القيمة القصوى منها، ثم تحسين جودة الموجودات الفكرية، فإن القدرة التنافسية للمؤسسات لا تعتمد في المقام الأول على الموارد المالية والموجودات المادية التي تمتلكها، ولكن على حسن استثمار وإدارة رأس المال الفكري، لضمان استدامة الموارد الفكرية.

* د. جميلة الهنائية كاتبة وباحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.