المشروع الفكري لطه حسين (1) رؤية نقدية

03 أكتوبر 2023
03 أكتوبر 2023

مر الآن نصف قرن على وفاة طه حسين عميد الأدب العربي، ولم ينل حقه كاملًا من البحث والنظر؛ فما زالت كتاباته تحتمل الكثير من البحوث والدراسات. ولا شك في أن الملمح الأساسي البارز في كتابات طه حسين هو لغته نفسها التي لا ينافسه فيها منافس، ولا يدنو منها أحد؛ فهي تتسم بطابع من التفرد، يجعلنا نتعرف على أسلوبه الخاص بمجرد أن نسمع أو نقرأ فقرة واحدة مما كتب، وإن لم تأت منسوبة إليه. وهذا شأن كل أديب عظيم؛ لأن الأديب الحق هو أسلوبه الخاص، وقد تميز أسلوبه بجمالياته الصوتية التي تجعل المعنى أو الفكر يتسلل إلينا ويصبح له قوة إقناعية لا تنفصل عن اللغة التي قيل بها. ولا أظن أن واحدًا- وأنا منهم- لم يفتنه أسلوب طه حسين.

على أن طه حسين ليس مجرد أديب مبدع صاحب أسلوب خاص، ولا هو مجرد ناقد مجدد، وباعث لحركة النقد الحديث، وإنما هو أيضًا مفكر صاحب مشروع فكري خاص أثار ولا يزال يثير جدالًا فكريًّا حول أصالته ومرجعيته وجدواه. وبطبيعة الحال، فليس بوسعنا في هذه العجالة أن نلم بأطراف فكر طه حسين أو جوانبه العديدة التي لا يمكن الإحاطة بها إلا من خلال دراسات مسهبة، وإنما يمكننا فقط أن نحاول الوقوف على السمة الأساسية المميزة لهذا الفكر أو- بمعنى أدق- الوقوف على ما يحرك هذا الفكر ويشكل منطلقاته في كل منحى من مناحيه. وفي هذا الصدد يمكنني القول إن فكر طه حسين ينبع من مرجعية الفكر الأوروبي الحديث وريث الحضارة اليونانية باعتبار أن هذا الفكر هو المعيار أو النموذج الذي يُقاس عليه، وهذا ما يُعرَف بمبدأ «المقايسة» في الثقافة العربية الحديثة. وليس بوسعي ضرب الأمثلة على هذا عبر كل مناحي فكر طه حسين، وإنما سأكتفي بتتبع ذلك عبر مثالين متباينين تمامًا، أحدهما يتعلق برؤيته أو تفسيره لتراث الحكم في الإسلام، والآخر يتعلق برؤيته للتعليم ولمستقبل الثقافة في مصر.

فيما يتعلق بالمثال الأول، يمكننا الرجوع إلى كتابه «الفتنة الكبرى». وهنا سنجد تأكيدًا صريحًا على أن الفتنة التي حدثت والتي لا تزال متواصلة إلى يومنا هذا، هي فتنة كانت لا بد أن تحدث؛ لأن نظام الحكم القائم على الشورى كان مناقضًا لنظام الحكم الديموقراطي (ويجب أن نضع هنا بين قوسين نموذج الديموقراطية الأثينية في ذهن طه حسين). هذا ما ذهب إليه طه حسين في الجزء الأول من كتابه «الفتنة الكبرى» الذي كرسه للخليفة عثمان، إذ يقول صراحةً: «فليس من شك في أن نظام الحكم في الصدر الأول من حياة المسلمين لم يكن ديمقراطيًّا، فالشعب لم يكن يختار حكامه بهذا المعنى الدقيق.. الذي يُختَار عليه الحكام في النظام الديمقراطي» («الفتنة الكبرى- عثمان»، ص. 28-29). وفحوى رؤية طه حسين هنا أن نظام الحكم الذي تأسس في صدر الإسلام هو حكم ومشورة الطبقة المميزة القريبة من النبي أو التي أحبها النبي. ومن هنا نشأت طبقة أرستقراطية، وشاعت أقوال من قبيل: «منا أمير ومنكم أمير»، «والأئمة من قريش»، بل إن النبي الكريم قال للأنصار: «نحن الأمراء وأنتم الوزراء». وهكذا رأى طه حسين أن نظام الحكم في الإسلام قد تأسس على أرستقراطية قوامها القرب من رسول الله، يُتوخى فيها إقامة العدل والأمر بالمعروف، وهو نظام كان معرضًا للزوال بطبيعته.

وعلى الرغم من أن الجزء الأول من كتاب الفتنة الكبرى كان مكرسا لعثمان، فإن الجانب الأكبر منه كان مكرسًا لعمر رضي الله عنه، وقد رأى طه حسين أن النظام الدستوري القائم على العدل الذي كان يطمح فيه عمر كان من الممكن أن يتحقق لو امتدت خلافته، ولكنه لم يكن كافيًا ولا مقنعًا، وهو ما فطن إليه عمر بعد أن طُعِن (ص. 48). ولا شك في أن هناك انحيازًا واضحًا من جانب طه حسين لعمر في هذا الكتاب.

ولا شك في أن أطروحات طه حسين في هذا الصدد قد خلخلت كثيرًا من الثوابت في نظرتنا التي تقدس التراث الإسلامي المبكر وتراه ممتنعًا على النقد؛ ولكن ما يمكن أن يؤخذ عل طه حسين هو أن النموذج الذي يقتدي به هو نموذج الحضارة الأوروبية وريثة الحضارة اليونانية والرومانية، وهذا ما يمكن أن تبينه بوضوح حينما نتأمل موقفه من الثقافة والتعليم. وهذا هو موضوع مقالنا التالي.