المسؤولية المجتمعية والمواطنة
ينبغي للمجتمع المدني بكل فئاته أن يكون منظومة واحدة لا يمكن الفصل بين وحداتها، كما لا يمكن لأي منها أن ترقى دون البقية، وهكذا لا ينبغي لهذا المجتمع المدني توهم أن مفرداته - من أفراد مقيمين على أرضه (بغض النظر عما يحملون من هويات) ومؤسسات قطاع حكومي أو خاص، وطبيعة ينبغي مراعاتها وتفعيل ممكناتها لخدمة إنسان هذه الأرض – هي قطع شطرنجية يصل بعضها بسقوط بعضها الآخر، بل هي بنيان واحد ينهض بتكامل أجزائه ويتداعى بفصلها.
وضمن هذه الفكرة للتكامل عبر الاتحاد تأتي فكرة المواطنة التي لا يمكن أن تقتصر على حاملي هوية بلاد ما، وربط انتمائهم للمكان وحرصهم عليه بأوراقهم الثبوتية، وإنما لا بد لهذه الفكرة أن ترقى وتشمل التأثير الإيجابي في المكان الذي نعيش فيه ونتفاعل مع معطياته سلبًا أو إيجابًا، مواطنًا أو مقيمًا.
وحيث إنه لا يمكن إنكار أو إخفاء ما تركت جائحة «كورونا» على العالم من آثار صادمة أثرت على اقتصاد كثير من الدول، إن لم تكن على العالم كافة، كما أنها أثرت بالضرورة على الإنسان في هذه الدول اقتصاديًا واجتماعيًا.
مع هذه الجائحة وما تركته من آثار متراكمة ظهرت خلال هذين العامين وستظهر مستقبلا حتى مع اختفاء الجائحة؛ لأن هذا الأثر تراكمي لن يتجاوزه العالم في غمضة عين، ولا ينبغي أن يستغرق عقودًا من الزمن كذلك لو مكنت وسائل تجاوزه بعد استيعابه واحتوائه.
وفي خضّم هذه التراكمات المتتابعة للأزمة، تعود تساؤلات تأملية حول دور المسؤولية الاجتماعية، أو المسؤولية المجتمعية، إذا ضمنا الثانية في الأولى مع التفريق بينهما.
كما تظهر تساؤلات تتعلق بالمواطنة -مواطنة الفرد، ومواطنة المؤسسة- عامة كانت أو خاصة.
ولعلّ من الإنصاف ذكر محاسن وسائل التواصل الاجتماعي في هذا المجال، حيث تصغر المسافات، وتصل الأصوات لبغيتها في وقت أقصر ولجمهور أكبر.
ومن الإنصاف كذلك ملاحظة ما أنجز عبر أفراد أو مؤسسات قليلة (محليًا وعربيًا) للنهوض بمجتمعات تعاني من وطأة هذه الجائحة، على إنسان مجتمعات تحمل إرثًا عظيمًا مما يتضمن بالضرورة اعتناق فكرتي المواطنة والمسؤولية الاجتماعية.
مبادرات نهض بها رائعون ممن اعتنقوا هاتين الفكرتين تمثلًا وسلوكًا، لا تنظيرا وادعاء؛ فمنهم من تبنى مجانية العمل لصالح مجتمعه بتبني أصوات لحالات اجتماعية متأزمة ماديًا، متأثرة مجتمعيًا لتصل لدعم مادي أو معنوي من تفاعل المجتمع المحلي مع أصداء هذا الصوت، وإخلاص هؤلاء الأفراد، أو مبادرات أخرى لتبني الدفاع عن قيمة مجتمعية، إنسانية، أو بيئية؛ لمنع تراجعها أو زوالها.
وفي خضّم ذلك تعالت أصوات أخرى متسائلة عن المسؤولية الاجتماعية أو المجتمعية للشركات، عن مواطنة هذه الشركات، وما يمكن أن يُلمَس من أثرٍ لتجاوز هذه الأزمة تحديدًا، بسبب اتساع تأثيرها وحِدّة أثرها.
وإذا تساءلنا عن ماهية المسؤولية الاجتماعية للشركات، نجد تعريفًا أُعلن في منشور مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة الذي حمل عنوان «التحلي بحسن الإدراك للأعمال التجارية» حيث عرّف لورد هولم وريتشارد وات المسؤولية الاجتماعية للشركات بأنها: الالتزام المستمر للأعمال التجارية بسلك سلوك أخلاقي والمساهمة في التنمية الاقتصادية، وفي الوقت ذاته تحسين نوعية حياة القوى العاملة وأسرهم، وكذلك المجتمع المحلي والمجتمع ككل» ضمن هذا المفهوم للمسؤولية الاجتماعية للشركات، وضمن فضاء يرزح تحت تأثير جائحة كورونا اقتصاديًا واجتماعيًا، بيئيًا وإنسانيًا، فالحديث هنا لن يكون عن الشركات الصغيرة التي تقع ضمن التأثير المباشر لهذه الجائحة، بل هي ذاتها متضمنة الفئات المحتاجة للدعم، ورغم وجود بعض مبادرات (خجولة) لبعض الشركات الكبرى هنا وهناك إلا أن المؤمل أكبر بكثير من الملموس، وما كان لمواطنة هذا القطاع - الذي يعول عليه وعليها كثيرًا – أن تتضاءل وتنكمش بعيدًا عن مؤثرات جائحة عابرة كهذه، مهما عظمت تراكماتها، ولا يتأتى ضمن أسوأ توقعاتنا أنه يمكن لهذا القطاع أن يتخلى عن مسؤوليته المجتمعية، بل يُنتظر منه تقديمها كاملة غير منقوصة، كما يليق به وبنا.
وما زال مجتمعنا (أفرادا وجماعات) على ثقةٍ في قدرتنا جميعا على تجاوز إعصار هذه الجائحة، كما تجاوزنا غيرها عبر تاريخ طويل، وما زلنا نعقد آمالنا على تكشف المواطنة الحقّة عبر مساهمةِ الجميع في النهوض بمجتمعنا لغدٍ أفضل.
وضمن هذه الآمال نردد مع المتنبي:
«وللنفس أخلاقٌ تدلُّ على الفتى
أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا؟»
