المرآة الأيديولوجية

21 سبتمبر 2023
21 سبتمبر 2023

تخوض الكاتبة والناشطة اليسارية، نعومي كلاين، في كتاب صدر لها حديثا بعنوان «Doppelganger» (الشبيه)، في التشابك الغريب بين الاستقطاب السياسي، والحقائق المعترض عليها، ووسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة في كل مكان والمميِّزة لعصرنا الحالي. وتبحث نعومي في «العالم المرآة» لنظريات المؤامرة والدعاية اليمينية المتطرفة عبر الإنترنت، لتقدم رؤى فريدة من نوعها عن الواقع الرقمي المرير الذي نعيش فيه.

ويُلمح عنوان Doppelganger إلى نعومي وولف، الكاتبة التي تحولت إلى مُنظِّرة المؤامَرات، التي كثيرًا ما يقع الخلط بينها وبين كلاين. فخلال جائحة كوفيد-19، كانت وولف مدافعة قوية عن الأفكار المناهضة للقاح، وكثيرا ما كانت تظهر على منصات اليمين المتطرف بادعاءات مفادها أن تدابير الصحة العامة جزء من مؤامرة عالمية ماكرة. وعندما تقارن كلاين مسارها مع مسار وولف، فإنها تُظهر مستوى من الوعي الذاتي لم يكن واضحا في أعمالها السابقة كما هو الآن، لتقدم بذلك نقدا صريحا للعلامة التجارية الشخصية التي طورتها على مر السنين. وتتمتع كلاين، وهي أستاذة لشعبة العدالة المناخية في جامعة بريتيش كولومبيا، بسجل زاخر بالأعمال الناجحة تُغبط عليه. إذ تلقى أكثر كتبها مبيعا، التي تتناول قضايا مثل التهديد المتمثل في تغير المناخ، والدور المفرط للمال في السياسة الأمريكية، والقرار الكارثي الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بغزو العراق، صدى لدى قرائها الذين تتشكل غالبيتهم من الليبراليين. ولكن كلاين تتطرق في كل كتاب من كتبها إلى أطروحة معيبة، مع أن صياغتها أصلية، وعنوانها لافت للانتباه، وتطبيقها جاذب للاهتمام. وخير مثال على ذلك، كتابها الأول «No Logo»، الذي نُشر في عام 1999، بعد وقت قصير من الاحتجاجات المناهضة للعولمة التي اندلعت أثناء اجتماع منظمة التجارة العالمية في سياتل. واستهدف الكتاب الشركات متعددة الجنسيات التي استثمرت بكثافة في العلامات التجارية، بينما كانت تنقل عمليات الإنتاج إلى العمال ذوي الأجور المنخفضة في البلدان النامية. ومن المؤكد أن بعض الشركات الأمريكية أصبحت ضخمة جدا ومخلة بقواعد المنافسة، الأمر الذي يستلزم وضع قواعد تنظيمية أكثر صرامة من تلك التي واجهتها في العقود الأخيرة. كذلك، لا تخلو حجة كلاين التي مفادها بأن الشركات الأمريكية تزدهر في ظل ثقافة استهلاكية مفرطة من الصحة. وفضلا على ذلك، تشكل الشركات متعددة الجنسيات البارزة أهدافا أكثر قابلية للتأثر سياسيا مقارنة مع الشركات الصغرى والأقل صيتا. ومع ذلك، قد يجادل العديد من الاقتصاديين بأن الشركات متعددة الجنسيات التي تنشط في الاقتصادات منخفضة الأجور توفر للعمال الفقراء مستويات معيشية أفضل مما كانوا سيحصلون عليه في شركات أخرى. ولنأخذ على سبيل المثال النمو الاقتصادي في دول مثل بنجلاديش وفيتنام. ففي حين يحصل العمال في البلدان النامية على دخول منخفضة، فإن العمل في «مصنع استغلالي» لشركة متعددة الجنسيات يوفر لهم فرصًا أفضل من البدائل المحلية.

ومع أن هذا النقاش مألوف، إلا أن «No Logo» وضع تعريفا أصليا للعلامة التجارية باعتبارها جوهر المشكلة. ولكن هذا أمر بعيد كل البُعد عن تحقيق الهدف؛ حيث إن الشركات الصغرى المجهولة التي لا تملك علامات تجارية راسخة، يمكن أن تكون عائقا أمام الاستدامة البيئية أو غيرها من الأهداف الاجتماعية، شأنها في ذلك شأن الشركات الكبرى التي تحمل الأسماء التجارية المعترف بها. وفي الواقع، غالبا ما تكون الشركات الكبرى مهووسة بسمعتها، مما يجعلها أكثر استجابة للضغوط التي يمارسها الناشطون. وغالبا ما تكون الشركات متعددة الجنسيات البارزة هي التي تعمل على تعزيز المعايير البيئية ومعايير العمالة، وليس الشركات الصغرى.

وفي عام 2007، أصدرت كلاين The Shock Doctrine، وهو نقد للاقتصاد النيوليبرالي. وفي حين أن المناقشات التي تتناول دور الحكومة في الاقتصاد ليست وليدة اليوم، فإن مصطلح «الليبرالية الجديدة» ما زال مبهما. وإذا كان يدل على الإيمان برأسمالية عدم التدخل البحتة ومعارضة أي تنظيم، فإن قلة قليلة من الاقتصاديين والسياسيين يرتقون إلى هذا المعنى. وقد تعني النيوليبرالية أن الهيئات التنظيمية لا ينبغي لها أن تتدخل إلا لمعالجة حالات إخفاق محددة في السوق مثل التلوث، والاحتكارات، وعدم تناسق المعلومات- وهي وجهة النظر التي تتفق بصورة أوثق مع النظرية الاقتصادية السائدة. ويتجلى الحس الإبداعي للكتاب في كونه يركز على ادعاء كلاين بأن المحافظين الأمريكيين يستفيدون من الأزمات الوطنية لحشد الدعم الشعبي للسياسات التي لا يمكنهم سنها بطريقة أخرى. وأبرز مثال على ذلك، هو استغلال بوش ونائبه في فترة توليه للرئاسة، ريتشارد تشيني، للصدمة النفسية العميقة الناجمة عن الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر 2001، في الولايات المتحدة لحشد الدعم للحرب في أفغانستان والعراق. ومن المثير للاهتمام أن بوش وتشيني رأيا أيضا في أعقاب أحداث 11 سبتمبر فرصة مناسبة لممارسة ضغوط من أجل تخفيض الضرائب. ومع ذلك، هناك العديد من الأمثلة التاريخية لليبراليين الذين يستخدمون الأزمات لحشد الدعم الشعبي لأجنداتهم.

فعلى سبيل المثال، استغل الرئيس الأمريكي، فرانكلين روزفلت، الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي خلفتها أزمة الكساد الأعظم لتفعيل الإصلاحات الاقتصادية الشاملة التي أقرتها الصفقة الجديدة. وعلى نحو مماثل، استفادت إدارة باراك أوباما، بموجب منطق مفاده أن «عدم استغلال الأزمات أمر فظيع»، من أزمة الركود الأعظم في الفترة 2007-2009 للتغلب على المعارضة الجمهورية الشرسة، وسن قوانين إصلاحات دود-فرانك المالية، وقانون الرعاية الميسرة. وتجادل كلاين في كتابها الذي صدر عام 2014 بعنوان «This Changes Everything»، بأن الرأسمالية مسؤولة بالدرجة الأولى عن تغير المناخ، وتؤكد أن معالجة أزمة المناخ تتطلب إصلاحا شاملا للنظام الاقتصادي العالمي. ولكن في حين يمكن القول إن التصنيع والنمو الاقتصادي يؤديان إلى انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي، فإن الحقيقة هي أن الاقتصادات الاشتراكية الموجهة، مثل اقتصادات الكتلة السوفييتية السابقة، شهدت مستويات تلوث أعلى بكثير مقارنة مع نظيراتها الرأسمالية الغربية. والأهم من ذلك أننا لا نحتاج إلى التخلي عن الرأسمالية لمكافحة تغير المناخ. بل على العكس من ذلك، يمكن أن تؤدي الاستفادة من الآليات القائمة على السوق، مثل: ضرائب الكربون، وتصاريح الانبعاثات القابلة للتداول إلى تراجع تكاليف الانتقال إلى اقتصاد محايد للكربون، ومن ثم جعل التحول أكثر قابلية للتطبيق على المستوى السياسي. ويمكن أيضا تسخير التجارة الدولية لصالح البيئة. ولطالما ادعى منكرو تغير المناخ أن الحملة الرامية إلى تخفيف الانحباس الحراري العالمي هي مجرد حيلة يسارية لتوسيع حجم الحكومة ونطاقها. وفي حين أن حركة المناخ متجذرة بقوة في البحث العلمي وليس في أي أيديولوجية مؤيدة للحكومة، فإن حجة كلاين المناهضة للرأسمالية أعطت مصداقية عن غير قصد لمثل هذه الادعاءات. وتَعزز هذا التصور بدرجة أكبر عندما أدرج الديمقراطيون تدابير غريبة مثل ضمان الوظائف الفيدرالية في تشريع «الصفقة الخضراء الجديدة».

وعلى عكس كتب كلاين السابقة، يتضمن كتاب Doppelganger الكثير من التأمل الذاتي. إذ بفحصها لأساليب اليمين المتطرف العدوانية التي تتحدى الحقائق، فهي تدخل في صراع مع قيودها الخاصة. إذ كتبت قائلة: «على مدى سنوات كنت أقول لنفسي (وللآخرين) إنني أعارض العلامة التجارية، ولكن ها أنا ذا، أحاول إثبات ذاتي السيادية أمام نسخة أخرى مني «خارج العلامة التجارية»، في إشارة منها إلى «نعومي الأخرى». وقد تكون هذه معلومة مهمة من Doppelganger. إذ عِوض الاكتفاء بالإشارة إلى المفاهيم الخاطئة الجامحة لدى خصومنا السياسيين، بوسعنا أيضا أن ندرك بعض القيود التي نشترك فيها ونواجهها معا. سواء كنا من اليمين أو من اليسار، مؤلفين أو قارئين، فإننا غالبا ما نعتمد كثيرا على العلامات التجارية، والشعارات، والعناوين الرئيسية، والتعميمات، والشخصيات، والفُرق، والميمات، والمخططات. وإذا اعترفنا بميلنا الجماعي نحو التفكير القبلي وحتى التآمري، يمكننا أن نفهم لحظتنا الثقافية الحالية فهما أفضل.