المتغير .. ثمة تحولات في الفكر والسلوك

04 سبتمبر 2022
04 سبتمبر 2022

"لا ينظر إلى المتغير على أنه حالة تنظيرية مرتبطة بفترة زمنية تتماهى مع مرور الزمن، بل هو واقع ملموس يتجاوز التنظير إلى الممارسة الفاعلة في حياة الناس، وبقدر حركة الحياة وما تتطلبه من متغيرات يظهر نتاج المتغير في مختلف أوجه هذه الحياة

ليس هناك جدلية صراع بين الثابت والمتغير، ولا يجب أن يفهم سياق المتغير والثابت على أنه كذلك، وإنما هو مسار حياة البشرية، وفق هذه الصورة؛ فهنا نمو فارض نفسه بحكم حركة الحياة؛ يحفزه المتغير، ويعلي من شأن قدرة البشر الفاعلين في البحث عن حياة أكثر قدرة على مواجهة متطلبات حياتهم اليومية؛ واتساع طموحاتهم وآمالهم، وهناك تراكم حضاري يؤرخه الثابت، فالثابت راصد أمين لحركة المتغير، ويجب أن يكون كذلك؛ حتى لا يكون هناك قطع في مسار الإنجاز الذي يحققه البشر خلال مسيرتهم الحياتية، والمتغير عنوان عريض لتموضعات الثابت، لأن المنجز الإنساني لن يكون مقطوعا عن أصل إطلاقا، والرصيد الحضاري للأمة هو الذي يدفع بأفرادها لأن يبذلوا المزيد لكي يحافظوا على مكتسباتهم التاريخية، ويضيفوا عليها إنجازات أخرى لتستمر سلسلة المنجز، وهذا ما هو معاش على الواقع، وإن استجدت أدوات المتغير، في كل لحظة تاريخية في حياة الشعوب، تظل موصولة بماضيها، وهذا لا يعيبها في شيء، بقدر ما يؤكد نصاعة هويتها، وثباتها، وقدرتها على توليد الكثير من الأفكار والرؤى التي تراكم من منجزها الإنساني المستمر.

لذلك ينظر إلى المتغير على أنه حقيقة وجودية لا خيار في المفاضلة عنها، أو عليها، على عكس ما ينظر إلى الثابت؛ حيث البحث عن خيارات بديلة، تغير الكثير من حالة الهدوء والسكينة؛ إلى شيء من الصخب في بعديه المادي والمعنوي، وفي حالتيه الإيجابية والسلبية، حيث يبقى النظر دائما إلى المتغير على أنه يعكس حياة، ويعكس إرهاصات تنبئ عن حدوث أو قدوم شيء ما في لحظة ما من لحظات التاريخ؛ لصناعة الفارق بين أي زمنين، فالوجه المشرق للتاريخ لا يكتبه الثابت، بقدر ما يفعل دوره المتغير، وبهذا المعنى؛ فالمتغير ليس جدلا سفسطائيا لا معنى له، بل هو ممارسة واقعية، لن تسلك مقومات الحياة مسلكها الطبيعي إلا في وجوده، وعندما تحدث لحظة استثنائية يصنعها الثابت؛ مع عدمية ذلك في أغلب الأحوال؛ فإن الضرورة تقتضي أن يبحث عن نقطة صفر ينبلج منها نور المتغير، لكي تستمر الحياة، وتنشط، وتزهر، وتؤتي أكلها كل حين، في حركة دؤوبة لا تتوقف عند مستوى معين.

وعموم الناس ينتصرون للمتغير، ويرون في الثابت شيئا من تراكم الصور النمطية التي لم تعد تثير فيهم شيئا من التفاعل، ولكن بقدر هذا الانتصار للمتغير إلا أنه في الوقت نفسه يربك حساباتهم، ويوجد فيهم شيئا من الخوف والتوجس، وعدم الاطمئنان، وأكثر من ينتصر للمتغير هي الأجيال الشابة، التي تحب المجازفة، وتحب المخاطرة، وتحب أن تجد نفسها في واقع مختلف عما كان عليه من سبقهم، لأن النمطية مملة؛ في تقديرهم؛ وفيها شيء من التكرار الممل، لا يتناسب وحجم الطموح المستشرف لأفق المستقبل، وهذه الصورة ليست متخيلة، وإنما يؤكدها الواقع من خلال ممارسات الأجيال، وحركة الناس اليومية، ولذلك يرى أن اتساع الأمكنة لن يكون كافيا لمفهوم المتغير لدى كثير من الناس، ولعلنا نعيش حركة الانتقالات اليومية لأفراد المجتمع، حيث يتجاوزن بهذه الانتقالات محيطهم الجغرافي المحدود، إلى محيطات جغرافية أخرى، يسبرون فيها مختلف الفروقات في كل ما تتضمنه الحياة في شقيه المادي والمعنوي، فحركة الناس؛ هنا؛ ليست ممارسة تقليدية، بل هي ضرورة حتمية، كل ذلك بحثا من هاجس ما يسمى بـ "المتغير"مع أن هذا الانتقال من مكان إلى الآخر تكلفته ليس هينة: ماديا ومعنويا، ومن هنا يحضر بيت الشعر الذي أورده قائله:

"سافر ففي الأسفار خمس فوائد؛ تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد"- انتهى النص – فخمس الفوائد المطروحة هنا لخيارات السفر، هي ضمنيا من هذا المتغير المبحوث عنه، حيث لن يكون متاحا حيث نقطة الصفر، أو أنه متاح ولكن ليس بالصيغة التي تطمح إليها النفس، وإلا ما الذي يدعو هذا الفرد أو ذاك لأن يتجشم عناء السفر، بكل حمولته المادية والمعنوية، وما سوف يواجهه من مخاطر متوقعة في الطرف الآخر من النهر؛ إلا هذا الهاجس المؤرق "المتغير" والسؤال هنا أيضا: هل يرقى المتغير إلى مستوى العقيدة؟ ولا أشير هنا إلى الدين إطلاقا، ولكن إلى ما يمثله المتغير من قناعات أكيدة بضرورة وجوده أولا، واستمراره ثانيا، وترسخ القناعة بتأثيره على الواقع؛ ثالثا.

كثيرا ما يردد البعض جملة "مقاومة التغيير" حيث ينظر إلى التغيير على أنه انقلاب في موازين القناعات، والمواقف، بل تغيير وجه الحياة، وإذا كان هناك من يسعدهم الثابت، ويرون فيه السكون والهدوء، ففي المقابل هناك من يسعدهم المتغير، ويرون فيه الأمل في الانتقال من مرحلة حياتية إلى مرحلة أخرى أكثر حيوية ونشاط، كما هو الحال في عمر الإنسان الذي يترقى بمراحله العمرية، حتى وإن نظر على أن مرحلة الكبر "الشيخوخة" على أنها مرحلة أقرب إلى السكون والهدوء؛ إلا أن حقيقتها غير ذلك تماما، بما تملكه من رصيد معرفي وخبرة حياة، تجعل من هذه النفس التي تزاحمت عليها السنون العودة إلى الحياة بصخبها من خلال الدوافع الذاتية المختزنة عند هؤلاء المسنون، ولكن لأنه ليس من اليسير التعبير عن ذلك، للقناعات الموجودة عند صغار السن، أن هؤلاء المسنين لم يعد لهم دور في هذه الحياة، فينكفئون احتراما لذواتهم أكثر.

لن تكون المقارنة منصفة عندما تقام بين ركني (الثابت/ المتغير) ومساواتهما في النتائج، لأن مجموعة الإرهاصات التي تعيشها المجتمعات تنقل الأفراد من حالة السكون؛ شبه المطلق؛ إلى حالة التفاعل المطلق، وهذا التفاعل؛ الذي يوصف بالمطلق؛ يربك القناعات، ويشوه الصور، ويغير موازين القوى، ويزاحم الثابت إلى حد التفتت والتشتت، وهذا مما يربك برامج الأنظمة، ولذلك فكثيرا ما تواجه خطط التنمية الكثير من العراقيل نتيجة هذه المتغير الضاغط بقوة الحاجة، وبقوة متطلبات العصر، ولذا يرى أن الخطط قصيرة المدى؛ ربما؛ تكون أكثر فاعلية من الخطط بعيدة المدى، لوجود هذا التسارع المقلق الذي تفرضه أجندة الحياة اليومية، بفعل حركة الناس، ومتطلباتهم المتسارعة هي الأخرى، ولعلنا نستحضر هنا مثالا بسيطا للتدليل على ذلك، وهو وجود الأطفال في الأسرة، حيث يقف رب الأسرة؛ في كثير من الأحيان؛ في حيرة من أمره، وهذه الحيرة ناتجة من هذا التسارع الذي يعيشه أطفاله بطموحاتهم، وآمالهم المعقودة على رب الأسرة بإمكانياته المحدودة، بينما الواقع خارج أسوار المنزل يعيش نزاعا لا هوادة فيه، بين ما هو متاح، وبين ما هو مطلوب، فالمجتمع يضج بالكثير من المتغيرات، ويدفع بها إلى أفراد المجتمع، وأفراد المجتمع بإمكانياتهم البسيطة "المتواضعة" يظلون غير قادرين على مواكبة هذه المتغيرات، والمسألة هنا ليست متوقفة على الإمكانيات المادية فقط، وإنما ينظر إليها بكثير من الشمولية، تتضمن المواقف، والقناعات، ومجموعة الالتزامات المعقودة بين أبناء المجتمع، مع الأخذ في الحسبان أنه ليس من اليسير الانشقاق عن توجهات المجتمع، لخاطر الامتثال لمتطلبات المتغير، في الوقت نفسه أن تسارع الحياة لا يعطي ذلك النفس الطويل لمعالجات الثابت: من القناعات والمواقف، والإمكانيات، وهذا مما يعقد المسألة أكثر، ويوجد الأزمات.

ينحاز الفكر السياسي؛ أكثر؛ إلى الثابت، ويرى فيه شيئا من الممكنات التي من شأنها على تحافظ على الأمن والاستقرار، لأنه يتيح الفرصة لمراجعة الكثير من البرامج والخطط، وفي الوقت نفسه لا يخفي قلقه من المتغير والذي؛ غالبا؛ ما يوقظ النفوس النائمة، ويدفع بها إلى المطالبة بتحقيق الطموحات، ورفع سقف الأحلام إلى حدود غير نهائية، وإن كان هذا الأخير؛ ليس يسيرا تحققه بضغطة زر، فالمسألة مرتبطة بكثير من الالتزامات، والخطط والبرامج، والتسليم المطلق للمتغير تظل تكلفته باهظة، وغير محدودة، وقد يجر وراءه الكثير مما لا يمكن تقنينه بعد ذلك، ذلك أن المتغير؛ في بعض جوانبه تنادي به الفئوية، ولا تنتبه له العامة، ومن هنا يلزم الحذر عن الانزلاق في هذا الاتجاه دون روية، أو دراسة، أو تمهل.