المبادرة الصينية والحرب في أوكرانيا
الصين ثاني اقتصاد العالم والقوة الصاعدة على كل المستويات التي تؤكد معظم الدراسات الاستراتيجية حتى من داخل الولايات المتحدة الأمريكية بأنها سوف تقود الاقتصاد العالمي خلال عقدين من الآن. ومن هنا فإن الوصول إلى تلك الهيمنة الصينية وهي اقتصادية في المقام الأول تحتاج إلى إنهاء الحروب والصراعات التي قد تحد من انطلاقها في كل المجالات، خاصة على صعيد الطاقة، المحرك الأول لاقتصاد الصين وحركة التنمية الشاملة فيها. ومن هنا فإن الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت عامها الثاني تشكّل قلقا متزايدا على طموحات الصين في العالم.
وعلى ضوء تلك المحددات السياسية جاءت المبادرة الصينية بهدف وقف الحرب الروسية الأوكرانية من خلال ملامح خطة للسلام بين موسكو وكييف، ورغم أن ملامح تلك المبادرة غير واضحة فإن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بالتشكيك في تلك المبادرة وهذا شيء طبيعي على اعتبار أن الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية لم تتحقق، وهي أن تتواصل الحرب بهدف إضعاف روسيا اقتصاديا بالدرجة الأولى وإضعافها استراتيجيا والتقليل من هيمنتها على شؤون الطاقة في العالم.
ومن هنا يمكن تفسير الحماس الأمريكي والغربي لمساعدة أوكرانيا على الصعيدين الاقتصادي والعسكري ومن خلال مدها بالمعلومات الاستخباراتية، وهو الأمر الذي أشار إليه مدير الاستخبارات المركزية وليم بيرنز حول تقديرات الحرب والاندفاع الروسي تجاه احتلال العاصمة الأوكرانية كييف وهو ما حدث من محاولة جادة للقوات الروسية في بداية «العملية العسكرية الخاصة» كما تُطلِق عليها روسيا الاتحادية. ومن هنا فإن العامل الأساسي نحو حماس الولايات المتحدة الأمريكية لاستمرار الحرب والتشكيك في المبادرة الصينية يخفي تلك الأهداف الاستراتيجية وهي استنزاف روسيا الاتحادية من خلال حرب طويلة الأمد تمتد لعدة سنوات وهو نفس المشهد السوفييتي في أفغانستان الذي انتهى بالانسحاب السوفييتي من أفغانستان وسقوط الاتحاد السوفييتي بعد سنوات قليلة بعد استنزافه اقتصاديا لسنوات.
على ضوء ذلك فإن الاستراتيجية الأمريكية تنطلق من هذا المفهوم الذي ينبغي أن يتواصل وأن أي مبادرة سلام لوقف الحرب الروسية الأوكرانية لن تكون في مصلحة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية وحتى الغربية، حيث تشعر دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق بتنامي القوة العسكرية الروسية خلال عقدين من حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن هنا فإن إدخال روسيا الاتحادية في حرب استنزاف هو الهدف الأساسي. إن المبادرة الصينية يصعب أن تنجح لتلك الأسباب الجوهرية رغم أن بكين حرّكت المياه الراكدة، وهناك تجاوب عربي ودولي نحو أهمية إنهاء الحرب والجلوس إلى طاولة الحوار خاصة أن الشعب الأوكراني يعاني الأمرَّين من خلال الأوضاع الإنسانية ووجود الملايين خارج وطنهم وانقطاع الكهرباء والخدمات الأساسية في المدن الأوكرانية وفي مقدمتها العاصمة كييف، كما أن هناك قناعة بأن الحسم العسكري الروسي يبدو صعبا في ظل الدعم الاقتصادي والعسكري الكبير من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب لأوكرانيا حتى وإن سيطرت روسيا الاتحادية على أجزاء من الجغرافيا الشرقية الأوكرانية. إلا أن ذلك لن يحسم الحرب الروسية الأوكرانية المعقّدة. ومن هنا فإنه من خلال المبادرة الصينية أو دور تركيا يمكن الوصول إلى حلول واقعية، ولعل موضوع عضوية أوكرانيا في الناتو قد يكون هو مفتاح الحل للحرب؛ فروسيا الاتحادية تتحدث عن أهمية الضمانات الأمنية بالنسبة للأمن القومي الروسي وأنه يصعب على موسكو القبول بعضوية أوكرانيا -المحاذية لحدودها- في الناتو وهذا يعد من الناحية الاستراتيجية لأي دولة أمرا واقعيا من الناحية السياسية. وإذا كانت المبادرة الصينية تعالج هواجس روسيا الاتحادية فقد يكون ذلك بداية موضوعية لحلحلة الملف الروسي الأوكراني والتقدم بالحوار، كما أن السيطرة على الأراضي الأوكرانية في شرق أوكرانيا هو أمر غير منطقي حتى مع وجود نسبة من السكان ينحدرون من العرقية الروسية. وعلى ضوء ذلك تظل المبادرة الصينية جهدا إيجابيا من بكين بصرف النظر عن مصالح الصين لأن العالم في نهاية المطاف يتطلع إلى إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية لأن ذلك يعيد التوازن للاقتصاد العالمي ويعيد سلاسل الإمدادات إلى وضعها الطبيعي خاصة موضوع الحبوب والقمح حيث تأثرت عدد من الدول التي تعتمد على القمح الروسي والأوكراني فيما يخص تأمين وصول هذه السلع الاستراتيجية، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية وليس من مصلحتها استمرار الحرب لأن ذلك قد يخلق ضغوطا على روسيا الاتحادية فيما يخص استخدام السلاح النووي. ولعل تجميد موسكو لاتفاقية ستارت مع الولايات المتحدة الأمريكية حول السلاح النووي الاستراتيجي يعطي مؤشرا على خطورة الوضع في العالم في ظل تدحرج الحرب الروسية الأوكرانية إلى مسارات خطيرة قد تنزلق إلى ما هو أخطر من استخدام السلاح التقليدي، خاصة أن هناك تصريحات من كبار القيادات العليا في روسيا تتحدث على أن كل الخيارات مفتوحة ومنها السلاح النووي وهذا أمر يفزع العالم شرقه وغربه. ومن هنا، فإن مصير المبادرة الصينية سوف يعتمد على التطورات العسكرية للحرب وأيضا على الوضع الداخلي للسياسة الأمريكية في ظل مناخ سياسي يستعد لمرحلة الانتخابات الأمريكية والتنافس التقليدي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في ظل عدم حماس الحزب الجمهوري للدعم الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لأوكرانيا في ظل المصاعب الاقتصادية للشعب الأمريكي من تصاعد التضخم وارتفاع أسعار البنزين والبطالة وغيرها من التحولات الاجتماعية والاقتصادية في الساحة الداخلية الأمريكية، ومع ذلك تظل مبادرة بكين سواء نجحت أم فشلت جهدا سياسيا ينم عن قلق العالم من اتساع الحرب الروسية الأوكرانية وخروجها عن السيطرة في مرحلة من مراحلها مما يدخل العالم في مفترق طرق قد يؤدي إلى حرب نووية كارثية تأكل الأخضر واليابس، كما يُقال.
