«المؤثرات الحضارية» .. أدوات للتقارب

28 أبريل 2024
28 أبريل 2024

تؤدي المؤثرات الحضارية دورا محوريا في الانتقال من حالة الفقر الإنساني والمادي، إلى حالة التخصيب في كل جوانب الحياة المختلفة، يحدث هذا ليس فقط في محيطها الجغرافي الذي يتميز بها دون غيره، وتحقنه بالكثير من المباهج الإنسانية، وتعمل على تسويقه إلى العالم الآخر، بل يتوغل إلى كل الجغرافيات الممتدة، يحدث هذا بفعل هذا الإنسان؛ الذي كُلّف بإعمار الأرض، وليس بخرابها، ويحدث هذا لإرواء الأنفس العطشى إلى البعد الإنساني؛ أكثر من البعد البيولوجي لإرواء غريزة الجوع والعطش. ولذلك فلن يكون لهذه المؤثرات الحضارية أي تأثير إذا صادفت في محيطها أنفسا مستنفرة بالحقد، والكره، والتسلط، وحياة الغاب، ولذلك فقد قُيِّمَتْ الحضارات القديمة؛ ليس فقط على المكتسب المادي الظاهر على سطح الأرض، كالعمارة الضخمة، وإنما بما أكسبت إنسانها في ذات حاضرها من سمو الفكر، والقدرة على توظيف ما هو متاح أمامه لخير الإنسان، وبذلك شكل الاستقرار الإنساني في المواقع التي نشأت فيها الحضارات القديمة ملمحا مهما لمتانة حضارته، وقدرتها على البقاء والصمود مئات السنين، وانعكس هذا السمو في الفكر على الأداة التي استخدمها لتعزيز حضارته، كما انعكس على اللغة التي خاطب بها الآخر، وعلى الفنون التي شارك بها من حوله، كنوع من فيض حضارته الشاملة. ومن هنا ينظر إلى التخطيط الحضري في كل التجارب الإنسانية الساعية إلى تأسيس مكون حضاري من شأنه أن يؤدي دورا محوريا في حياة الأمة كلها -على أنه عامل محوري من عوامل قيام الحضارة الإنسانية، ومن دون تحقق التخطيط الحضري، يذهب ذلك إلى شيوع الفوضى، والسلب والنهب، وعدم العدالة الاجتماعية؛ فالحضارة هي مرتكز العدالة الاجتماعية في كل عصر، ومن دون هذه العدالة لن يكون للحضارة ذلك المرتقى الإنساني الذي يؤصل من بقائها وديمومتها على مر السنين، ومتى فقدت ذلك بممارسات؛ هي أقرب إلى الغباء؛ كان ذلك إعلانا بأفولها، وإقصائها من حاضنة التاريخ الإنساني الرشيد.

تحفل التجربة الإنسانية بعدد من المؤثرات الحضارية، وهي؛ بلا شك متجددة ومتطورة؛ وفقا لكل عصر على حدة، وإن ارتكزت على بعض الأسس؛ نذكر منها في هذه المناقشة ما يلي؛ أولا: الموقع الجغرافي «الجيوسياسي»؛ بما يتضمنه من معززات طبيعية كالجبال، والبحار والأنهار، ومن أراض زراعية، ومناخ متنوع، وأثر ذلك كله في المحافظة على الحضارة القائمة وإعطائها الكثير من معززات البقاء، والنمو، والتوسع، والتميز، وأثر ذلك كله على الاستقطاب البشري المتنوع والمتعدد الأغراض والأهداف.

ثانيا: يأتي مؤثر الصلات مع العالم الآخر؛ العنوان الكبير على قدرة أبناء حضارة ما على تجفيف منابع الاختلاف والتباين بين الشعوب، وعقد صفقات رابحة من التعاون والتواد، والتكامل بين أمم الأرض، وهذا من شأنه أن يرتفع بسهم أبناء الحضارة إلى مصاف الحضارات المماثلة في العالم الحي، وفي سبيل استعراض هذه المؤثرات تأتي رابعا: القيم الإنسانية كمعزز محوري في تأصيل المعنى الحضاري لأي حضارة قائمة على سطح الأرض، فليس القوة الطاردة للمثل هي ما ينظر إليها في تعزيز بقاء الحضارات، وإنما عبر قيمها الحاضنة للود الإنساني، والمتكاملة للجهد الإنساني، وشيوع مستويات الأمن الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، ولذلك تفشل اليوم، بل وتسقط سقطا ذريعا وسريعا من قائمة المعنى الحقيقي للحضارة أي شعب لا يرى في القيم الإنسانية القيمة المعنوية لبقاء الحضارة التي يتمثلها، ولا يستحق أصلا أن يشار إليه لا من قريب ولا من بعيد بأن فرد هذه المجموعة أو تلك على أنه متحضر، أو أنه ينتمي إلى حضارة ما.

كذلك يأتي خامسا: الدين ولأننا مسلمون فالإسلام الحقيقي هو لب الحضارة وقلبها النابض بالحياة والسمو، عبر تعاليمه الإنسانية الراقية والوجودية في الوقت نفسه، ولن يصلح حال هذه الأمة من مشرقها إلى مغربها إلا بوجود الإسلام الحقيقي، وليس الإسلام المشوه الذي عليه كثير من المسلمين اليوم، ولذلك نعيش اليوم مستويات التكالب على الأمة العربية/ الإسلامية؛ من كل حدب وصوب لتحجيم دوره، وأحقيته؛ المفترضة؛ على واقع الناس جميعهم، وليس المؤمنين به فقط، ومن هنا تتقزم المشروعات الإنسانية في الحياة الحاضرة؛ لابتعاد المسلمين أنفسهم عن حقيقة إسلامهم، وتكالب القوى العظمى؛ وبكل قوتها؛ وحرصها على أن لا تقوم للإسلام قائمة، ليقينهم أن الإسلام، الذي يدعو إلى الحياة الكريمة للأمم كلها، وإلى شيوع الأمن والرخاء، والسلام، والعدالة في كل تموضعات واشتغالات الإنسان اليومية، سيسحب البساط من بين أيديهم، ويركلهم إلى حيث مزبلة التأريخ، ولذلك نشهد مع كل افتعال الأزمات أن أعداء الأمة أول ما يصرحون به هو أن أزمتهم القائمة هي أزمة دينية، وأنهم ينطلقون من مبدأ ديني قبل كل شيء، ولذلك يستبسلون لتحقيق غاياتهم الكريهة، ونواياهم العفنة، وأنفسهم المعفرة بأتربة المعصية والفجور، ولذلك فهم: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة؛ وأولئك هم المعتدون) الآية (10)؛ من سورة التوبة.

وخاتمة هذه المؤثرات؛ وفق هذه المناقشة هنا؛ سادسا: اللغة؛ هذا البعد المعرفي، والإنساني، والثقافي، والاجتماع لمفرزات الحضارة، فهي رسول الهداية إلى الآخر، ومع الآخر، وبالآخر، فلا تقام من دونها علاقة، ولا يمكن من دونها حوار، ولا يتحقق من دونها اتصال؛ ولا يمكن من دونها الوصول إلى أراض مشتركة من التفاهم والتعاون، والتآزر، والتكامل، والتوافق، وتجفيف منابع الخلاف والتنازع؛ فاللغة هي العنوان الكبير لهذه المؤثرات مع الأهمية القصوى لبقية ما تم ذكره أعلاه، ولذلك فأول ما يحرص عليه الاستعمار البغيض هو فرض لغته الاستعمارية، ولو بقوة السلاح؛ حتى يتمكن من فرض نفوذه، وسلطته، وتسلطه، ومتى كانت اللغة حاجز بينه وبين ما يسعى ويشتهي، فإن مشروعه الاستعماري ذاهب إلى الفشل الذريع، والحياة مليئة بمثل هذه المواقف التي لم يعمر فيها الاستعمار بسبب عقدة اللغة، بخلاف التجارب التي نجح فيها، وفرض فيها لغته، وحقق الكثير مما يريد؛ وربما أكثر مما يتوقع.

يمكن القول هنا؛ وفق ما تمت مناقشته: إن ما تعيشه الأمم الأوروبية والأمريكية بفعل أنظمتها السياسية لا يمكن أن يطلق عليه بيئة حضارية، وإنما هي نوع من الفوضى، والعنترية، فالحضارة هي: «حالة متقدمة للمجتمع الإنساني تجاوز فيها هذا المجتمع الفوضى، ووضع أسسا تنظيميا لحياة الناس، مما نشر نمطا حياة أكثر راحة وفتح مجالات تفكير وعمل أكثر أمامهم كمجالات التعليم والفنون وغيرها»- بحسب؛ https://www.google.com فالصورة الخصبة لمفهوم الحضارة؛ يفترض أن لا يحصر على محدد جغرافي عندما يتم الحديث عن حضارة إنسانية شاملة، كما هو الادعاء القائم اليوم على شمولية الحضارة الغربية؛ فمسمى الحضارة لا ينطبق وفق التقييم أعلاه على الصورة الغربية ولا الأمريكية إطلاقا، فهم أقرب إلى قطاع الطرق منهم إلى صناع الحضارة، ويشهد على ذلك سلوكهم الفض منذ بدء انتشارهم على امتداد الكرة الأرضية، حيث قاست الشعوب من ويلاتهم، وعنجهيتهم، ونرجسيتهم، وكأنهم ولدوا من أرحام غير إنسانية، فهم إلى البهيمية الصلفة التي لا تهدأ إلا بإرواء غريزتها؛ أقرب منهم إلى الإنسانية، ولذلك مثلت أفلامهم التي يطلق عليها أفلام «الكاوبوي/ فتى البقر» أصدق تمثيل حيث تمثل أحداثها الخروج عن القانون، ولا يزالون كذلك وبعقليتهم تلك، بل هم أشد فتكا عما كانوا بفعل أدوات الحرب والقتل والتدمير المتطورة، فتطورت عندهم الأداة، ولم يتطور عندنا الفكر، وظلوا كما كانوا يعانون من جفاف إنساني مقلق؛ كحالة مزمنة؛ لا يمكن علاجها، أو التخمين بتاريخ صلاحية انتهائها، وهذه الصورة تذهب إلى أن صناع الحضارة لا يمكن أن يؤدوا أدوارا متناقضة (بناء/ هدم) في آن واحد، فهذا الأمر أقرب إلى العته والجنون منه إلى التعقل والتبصر، ولذلك هم يعيشون ازدواجية المعايير بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

يمكن القول ختاما؛ إن أنماط الحياة: الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والعلمية، والسياسية، تتعزز، ويلمس أثرها الآخر؛ سواء أكان هذا الآخر قريبا في محيطه الجغرافي، أو بعيد يمكن الوصول إليه، كلما شاع النضج الفكري عند الإنسان، إنعاشا لمفرزات حضارته القائمة، وهذا النضج مرهون بقدرة الإنسان على إيجاد نوع من التوازن بين متطلبات الجسد والروح، فإذا طغى جانب من هذين الجانبين على الآخر، أوجد خللا ظاهرا في مفهوم الحضارة.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني