القيم الفكرية.. وصراع الهويات
ثمة تداخل في العلاقات القائمة بين كثير من الموضوعات، وينظر إليها بالكثير من الأهمية، لأن هذا التداخل هو الذي يفضي إلى كثير من النتائج، وقد تكون هذه النتائج صادمة لقسوة تأثيراتها على واقع الناس، ولأجل ذلك تتدافع الأسئلة عن السر؛ خاصة؛ إذا علم أن هناك عوامل معززة لجعل مستوى التماس في هذه العلاقات يذهب إلى خيرية البشرية، وليس العكس، خاصة أيضا؛ أن البشرية قطعت أشواطا كثيرة في فهم أهمية أن تعيش قريرة العين مأمونة الجانب لا تتوقع أن تصاب في خصرها من القريب الذي تتقاسم معه معززات الحياة الآمنة الطيبة، ومن هنا يذهب الحديث في هذه المناقشة عن العلاقة القائمة بين القيم الفكرية وهي قاسم مشترك عند كل البشر، وبين الهويات، وهي أيضا قاسم مشترك عند كل البشر.
والسؤال هنا: هل ثمة صراعات قائمة بين القيم الفكرية وبين الهويات؟ الواقع المعاش يظهر أن هناك حالات تماس بين الطرفين، فالقيم الفكرية من ناحية تذهب إلى شيوع العدالة والمساواة، وعدم التمييز، ووضوح الرؤية، وإعلاء صوت الحق، ومن ناحية يعمل مشروعها على تنقية مختلف العلاقات من الشوائب التي تُقوِّض علاقة الإنسان بواقعه ومحيطه، لأن الهدف هو الوصول إلى مستوى عال من العطاء، والاطمئنان، بينما تسعى الهويات إلى التكور على ذاتها، والتأطر على مشروعاتها، والانحياز على عناوينها، ولا يهم بعد ذلك أن تتحقق العدالة والمساواة، في خارج إطاراتها الضيقة، فهي تعمل لذاتها أولا، ومتى تحقق ذلك في محيطها، عندها يمكن أن تخرج من إطارها الضيق، وذلك في حدود ما يُعَظِّمْ من مكاسبها الذاتية، وليس فيما يخدم الصالح العام، وبالتالي فعند هذه النقطة يقف مستوى الخلاف، وهو خلاف متجذر، لحرص الإنسان – كفطرة – على خدمة ذاته أولا، ومن ثم النظر إلى خدمة الآخر.
تحضر القيم الفكرية المهمة والرئيسية في حياة الإنسان هي المتمثلة في: الدين، و«المعرفة والحكمة والإبداع» كما حددتها بعض المصادر دون الدخول في التفاصيل، ومع أن الدين – وأعني به الدين الإسلامي الناصع - يضم هذه القيم الثلاث؛ على اعتباره الجامع الأسمى؛ فهو المنتج الصادر من لدن رب العزة والجلال؛ فهو أهم مرتكز فكري على الإطلاق، ذلك أنه يحوي جميع المرتكزات الفكرية الأخرى: من المعرفة والحكمة والإبداع، ويحارب كل ما من شأنه أن يلبس الهويات شيئا من ما يضفي عليها أي شرعية كانت، ومنها إلصاقها بالدين، وعلى الرغم من هذه الأهمية التي يمثلها الدين في حياة الناس؛ إلا أنه على ما يبدو لم يستوعبه أنصاره؛ بشمولية هذه المعاني وتفاصيلها ليكون الحاكم الجامع في هذه العلاقة الشديدة الحساسية، ولتظل هذه الثلاثية المنبثقة منه؛ هي لتقريب المعاني، وللقياس عليها في فعل البشر، فقط، وتأتي المعرفة؛ وهي مجموع العلوم والمعارف المكتسبة، والخبرات، وتأصيل البحث العلمي، والانحياز نحو التأصيل؛ وعلى التقليل من تأثيرات الأخطاء، والوقوف على الجديد مما ينتجه الفكر، وعدم الخوف منه، والتوغل فيه، فصعود المعرفة وخفوتها هي فعل بشري بامتياز، وتنجز للبشرية كما نوعيا من الإنجاز الفكري المتعدد الأنواع والتأثيرات، وتحل الحكمة – واحدة من هذه المحاور التي تقوم عليها القيم الفكرية؛ وهي القدرة على التفريق بين الخطأ والصواب واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وعدم الوقوع في مطب الرذيلة، حيث تسعى إلى إعلاء قيم الفضيلة، فالحالة الوسطية التي تنادي بها الحكمة، هي التي تنقل مختلف السلوكيات من حالتها الدنيا إلى حالتها الأسمى، وكما جاء: «الحكمة ضالة المؤمن؛ أنَّى وجدها فهو أحق بها» وبمكتسبها البشري هذا يستطيع الإنسان من خلالها أن يصوب الكثير من فعله ليرتقي به إلى مصاف الرتب العليا، فينظر إليه على أنه منجزا بشريا يستحق الإشادة والثناء حيث تكتمل عناصره المادية والمعنوية، ويأتي الإبداع كأهم فاعل في صنع ما لا يتخيل في لحظة ما، ولأنه يتجاوز لحظات التخيل هذه، ويعيش مع الزمن معترك التحقق، ولأن الأمر كذلك؛ فيتوقع أن تكون مجموعة السلوكيات التي تظهر قدرة الفرد على التميز، والاختلاف، والتنوع، والابتكار في إيجاد الحلول المنطقية، والتقليل من الأخطاء، والقدرة على توظيف مختلف الأدوات المتاحة في البيئة المحيطة دون أن يؤثر ذلك على خصوصياتها، كما يتيح الإبداع من جودة الإنتاج- في الجانب السلوكي- إلى النظر إلى السلوكيات على أنها أدوات يمكن توظيفها لإضافة قيم مهمة في حياة الناس، وليس فقط مجرد تعريفات أو رسم صور نمطية غير معبرة عن واقعها الحقيقي، ومعنى هذا كله؛ فباكتمال هذه الثلاثية؛ يفترض؛ أن ترتقي الإنسانية بسلوكياتها، وبمفاهيمها من حالاتها البدائية الأولى حيث قصور الفهم إلى مرتقاها الأسمى؛ حيث الفهم الواعي القادر على التفريق بين الخطأ والصواب، دون إراقة قطرة دم واحدة على أرصفة الجهل، ومتى فشلت هذه الثلاثية في تقليل مجمل الخسارات التي يتكبدها الفكر في صراعه مع الهويات، غدت حياة الناس مرتهنة وفق ما تجود به فترات المهادانات القائمة بين الطرفين، وهي قليلة جدا.
لا تزال الهويات تلعب بورقتها الرابحة في مجموعة الاشتغالات القائمة عند البشر؛ بمختلف مشاربهم: أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم ونوعهم وقبائلهم وألوانهم وأجناسهم؛ دياناتهم، وعلى الرغم من التحقق المعرفي الذي شمل كل مناحي الحياة، والتطور النسبي للوعي الجمعي عند جل المجتمعات، إلا أن ذلك لم يحرك الساكن كثيرا بقدر ما أوجد أدوات ووسائل سخرها البعض لتعزيز الهويات، وتكريس وجودها كأحد العوامل للتميز، وللبقاء على ما كان عليه الوضع قبل نيف من السنين، ولذلك فإن تسلط الهويات لا يزال قائماً أكثر من ذي قبل، فالتطور الحاصل في الأداة التي نقلت اشتغالات الإنسان من المرحلة التقليدية؛ إلى مرحلة التصنيع، وانتقال الأسرة من استحكامات الأسرة الممتدة، إلى الأسرة النووية، التي تعد أكثر تحررا، وانتقال المجتمع التقليدي إلى المجتمع المدني القائم على القانون، وعلى محددات السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، إلا أنه فوق ذلك كله، وغيرها من المحفزات التي يكتسبها الأفراد نتيجة التحامهم بالشعوب الأخرى من أثر عمليات التأثر والتأثير، إلا أنه لوحظ ازدياد استعار الهويات في كثير من المجتمعات بصورة لا تطاق، ويتم توظيفها في المشروع السياسي بكل وضوح، ولم تستطع المجتمعات حديثها وأحدثها أن تتحرر من استحكامات الهويات، مع أنها تدفع أثمانا غالية وثقيلة، والسؤال: ما الحل لزعزعة هذا التسلط الذي تمارسه الهويات؟ هناك تنظيرات كثيرة طرحت، ولا تزال، وهناك ندوت ومؤتمرات أقيمت ولا تزال، وهناك معالجات قانونية لم تسفر عن كثير من التطور في اتجاه كبح جماح هذا التسلط، حيث لا تزال القناعات هي القناعات، والممارسات هي الممارسات؛ وإن غلفت بشيء من وراء حجاب؛ إلا أنها لم تتحرر من كدر القلوب وضيق النفوس، وكأن الجميع لم يبارح مربعه الأول؛ إلا الاستثناءات الصغيرة التي تمارس على خجل.
ينظر إلى الهويات على أنه «حَمَّالةُ أوجه» ولذلك تستغل في المواقف، وفي التخلص من الالتزامات الوطنية، والاجتماعية، وبقدر أهميتها في بلورة الكثير من الجهود لتبقى جهودا اجتماعية، أو وطنية، تختزل في إطار ضيق جدا، فتفقد فعلها المؤثر، وتفقد انتمائها الحقيقي وعلى أنها واحدة من العوامل المؤثر- بصورة إيجابية- في مساحة التفاعل بين الناس، وعندما ينحاز أفراد المجتمع إلى هوياتهم الضيقة، فإن الوطن؛ في المقابل؛ يفقد الكثير من أدواته الفاعلة، وتتراجع إنجازاته التنموية المهمة، وتكون هناك؛ في هذه اللحظة الفارقة من عمر الوطن؛ مثلبة لا يمكن رتقها مع مرور الأيام، بل تصبح «نكتة» سوداء على جبينه على مر الدهور والأزمان، ولذلك ينظر إلى القانون على أنه القادر بالخروج بالأوطان من تموضوعات هويات الأفراد والمجموعات؛ إلى المساحة الآمنة للعطاء، ومعنى ذلك إذا تعطل القانون أو أصبح مشلولا عن القيام بهذا الدور؛ فإنه في المقابل؛ تستفحل الهويات، وتنشط، وتكون آثارها السلبية أكثر من الإيجابية، ومن هنا يأتي النداء دائما إلى ضرورة تجفيف تخندق الهويات، وفصلها نهائيا عن المشروع الوطني الخالص.
