القوة الناعمة القطريّة في مونديال كرويّ

27 نوفمبر 2022
27 نوفمبر 2022

لم يكن مجرد حفل افتتاح لمونديال كرويّ، بل تفعيل رائع لكل إمكانات قطر في إيصال مجموعة من الرسائل إنسانيا وثقافيا وسياسيا، بداية من الموقع مرورا بالحضور وتنوعه واجتماعه رغم كل اختلافات الماضي وصولا لمحتوى الحفل التاريخي معنى ومضمونا. لا يمكن إلا أن نُؤخذ جميعا بنجاح قطر في تنظيم مونديال كأس العالم تفعيلا للقوة الناعمة سبيلا لتسويق ونشر مجموعة من الرسائل الثقافية عن قطر ممثلة للحضارة العربية والإسلامية المنفتحة على الآخر اختلافا تكامليا فاعلا.

كل ذلك جاء بعد صولات وجولات إقليمية وعالمية عبر سنوات الإعداد والتحضير لهذا المونديال في الدوحة، بين ترحيب بالتغيير والانفتاح على الآخر المختلف، وتنديد يروم حصر الأحداث العالمية ثقافيا ورياضية في دوائر جغرافية أحادية المركز والوجهة.

في هذه المقالة لا يمكن قراءة كل جهود قطر في هذا التحضير وصولا لهذا اليوم، مرورا بكل الرسائل عبر لوحات الإعلانات الموزعة في قطر بأكملها والمتضمنة أحاديث نبوية ومرويات عربية تدعو للسلام والمحبة بين الناس، ثم الخيول والجمال العربية رموزا لحضارة عربية نفخر بها عربا ومسلمين، لا يمكن تفصيل كل ذلك ليس لأن المونديال لم ينته بعد ولم تنفد مفاجآت قطر التي تدهشنا يوما بعد آخر وحسب، وإنما لأن مساحة هذه المقالة العجلى لن تفي بكل ذلك، لذلك ستقتصر الكتابة هنا على حفل الافتتاح الذي انتظره وترقبه الناس حول العالم من رياضيين ومحبي رياضة، وإعلاميين ومثقفين.

حفل الافتتاح الذي لم يتجاوز في وقته نصف ساعة من عمر الزمن ترك انبهارا لم يخفت، ودهشة لا تهدأ، سواء من ثلة المعارضين لإقامة المونديال في قطر متربصين اصطياد الأخطاء وتحجيم السقطات لتكبر معها أحرف شامتة أو تصريحات لائمة، أو عصبة المؤيدين الذين ملأوا قلوبهم قبل أكفهم أمنيات ودعاء بنجاح حفل الافتتاح؛ عتبة المونديال الأولى لإقناع العالم بقدرة العرب عموما على استيعاب العالم رياضيا وثقافيا معتمدين في كل ذلك ثوابت لا تتأرجح وقيما عليا هي مشتركات حضارية وإنسانية لا تقبل المساومة ولا تخضع للضغوطات.

هل نبدأ قراءة رموز افتتاح المونديال من اختيار المكان؟ "استاد البيت" حيث تجتمع مدلولات كلمة "بيت" العربية احتواء واستقرارا وراحة، أم من شكل الملعب ذاته وهو يحمل تصميما للخيمة العربية التي أراد لها المنظمون أن تكون خيمة عالمية مفتوحة الأرجاء على العالم؟ خيمة عربية سخية دون قيود وأقفال المنازل العصرية المغلقة، إضافة إلى مدلولات الخيمة المرتبطة بقيم عربية منها الكرم وحسن استقبال الضيف مهما كانت وجهته وكيفما كان مساره، الخيمة التي يفخر بها العربي ولا يخجل من إلصاقها به حينما تضيق الآفاق وتصغر المدارك ليظن الجاهل بأنها سبّة تقدح في تاريخ العربي، وتنميط سطحي يحاول النيل من ألوان حضارته قديما وحديثا ليعلنها جليّة من هذا المكان المحتضن دول العالم أن: نعم هذه خيمتنا التي تحتوينا وإياكم في فضاء عالمي واحد ولا تضيق باختلافاتنا مهما تباينت واتسعت.

يبدأ الحفل من أصداء صوت الهاون الذي يدق القهوة ويطحنها في رحى الزمن تحضيرا للضيوف القادمين من كل مكان، لتخرج من الخيمة مجموعة من النسوة هنّ الإعلان عن جاهزية الخيمة لاستقبال الضيوف تعزيزا لدور المرأة العربية أساسا لا يمكن إنكاره أو الاستغناء عنه. ثم تأتي بقية فقرات الحفل الذي يمزج بين خطين أراد لهما منظمو الحفل أن يكونا متوازيين؛ الخط القطري الذي يعكس الثقافة العربية الإسلامية والخط العالمي المتناغم مع الخط الأول قيميا وموضوعيا وفنيا.

وصولا للوحة الحوار بين الممثل الأمريكي مورغان فريمان رمزا من رموز التمثيل المعاصر والشاب القطري غانم المفتاح ممثلا للجيل الجديد الصاعد، مع تأكيد اختيار المؤثر الاجتماعي الحقيقي حاملا رسائل إيجابية وطاقات خلّاقة، هذا الحوار بينهما جاء حاملا للكثير من رسائل التجسير والتواصل بين ثقافات مختلفة وأجيال مختلفة، لكنه حوار يحمل طرفاه ذات القيم وذات الرغبة في معرفة الجوهر دون التسرع في إصدارالأحكام وفقا لدين أو عرق أو لون أو عمر أو مكان، كل تلك الفروقات الواهنة أسقطها استشهاد غانم المفتاح بآية قرآنية يخاطب فيها الله سبحانه وتعالى خلقه،كل الناس على اختلافهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

ثم لوحة "إيقاع الأمم" التي تحتفي بمشجعي كرة القدم حول العالم متخذة إياهم الأبطال الحقيقيين لكل الدورات السابقة، إذ أنهم فتيل شعلة هذه الرياضة العالمية وصانعيها، ومع صيحات تشجيع كل المنتخبات المشاركة استعاد الجمهور ذاكرة حماسية رائعة وسط "عرضة" قطرية هي منبر كل تلك الصيحات القادمة من أزمنة وأمكنة شتى في إشارة أخرى مفادها: أهلا بكم جميعا في بيتنا المشرع لأصوات الجميع ما دامت تدعو للسلام والتآخي.

أما لوحة "نوستالجيا كروية" التي طوفت بالحضور مرورا بالزمن إلى أغنيات المونديالات السابقة عبر تعويذة مونديال قطر لكأس الفيفا "اللعيّب" فكانت إبحارا في الماضي وتكريما لمنظمي دورات سابقة.

"الحالمون" لوحة عبرت عن تمازج قطري عالمي آخر بين الفنان القطري فهد الكبيسي وعضو فرقة "بي تي إس" (BTS) الكورية جونغ كوك، عبرت هذه اللوحة عن تحول حلم المونديال إلى حقيقة واقعة ودعوة مفتوحة للتعايش والحوار وتقبل الآخر.

وبين لوحتي "جذور الحلم" المبحرة في تاريخ قطر ولوحة "هنا والآن" مقابلة لما تم إنجازه من واقع قطر العصري أولا، ثم لما تحقق من وعدها باستضافة هذا الحدث الرياضي العالمي عبر كلمة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد المؤكدة للهوية الوطنية والقومية باللغة العربية مفتتحا لحدث عالمي رغم تمكنه من اللغة الإنجليزية، كلمته الملأى بالتأكيد على رسالة السلام ونبذ الفرقة والحوار "سوف يجتمع الناس على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وعقائدهم وتوجهاتهم هنا في قطر، وحول الشاشات في جميع القارات للمشاركة في لحظات الإثارة ذاتها، ما أجمل أن يضع الناس ما يفرقهم جانبا لكي يحتفوا بتنوعهم وما يجمعهم في الوقت ذاته!"

لا بد من شكر يُوجّه لقطر في تفعيلها للقوة الناعمة التي مكنتها من إقناع العالم برسائلها المضمنة في حفل عالمي وظفت خلاله كل الإمكانات الثقافية والفنية والتقنيات البصرية الحديثة، مما ضمن لها وللعرب عموما دبلوماسية ثقافية تحقق الأثر عبر الجاذبية، وتجعل الآخرين يريدون ما تريد عبر وسائل سلمية ثقافية ومعطيات ومشتركات حضارية، وليس عبر القوة العسكرية كما عبر عن ذلك المنظر للقوة الناعمة وأستاذ العلوم السياسية الأمريكي "جوزيف ناي" رغم كل حملات المقاطعة وتشويه السمعة طوال فترة التحضير وحتى يوم الافتتاح الذي كان الكلمة الفصل والبصمة التاريخية التي وثقت بها قطر فوزها المستحق في معركة مركزية القوى وحوار الحضارات.