الفلسفة الغربية ومسألة العقل وحدوده

13 يوليو 2022
13 يوليو 2022

من المعروف لفلسفة عصر الأنوار في الغرب، أنها جعلت العقلانية هي المرجع في كل المجالات التي تراها كفيلة بتحقيق، ما تراه أنسب للمرحلة الجديدة لذلك العصر الذي اعتبروه تنويريا، ومصطلح العقل في اشتقاقاته كما هو معروف، مثل (العقلانية، والتعقل، والمعقول، والعقلاني)، وهذه صار لها رواجا كبيرا في البحوث الحديثة، وفي أوساط الأكاديميين والباحثين في العلوم الإنسانية والدينية في الثقافات، ومن هنا، أصبحت كلمة العقلانية قضية كلمة محورية وفق فلسفة عصر فلسفة التنوير، في مرحلتها التالية بعد عزل الكنسية، وتم ربطها مع الرؤية التجريبية والعلموية، والابتعاد عن تفسيرات الدين من خلال المؤسسات الكنسية، وهذا ما تم إحياؤه، حيث انفصلت هذه الفلسفة عن القيم الدينية، وهذا نتيجة -كما أشرنا في المقال السابق- لردة الفعل على الممارسات الكنسية ضد العلم والتقدم والاختراع، وأدى هذا بعد ذلك إلى إبعادها تماما، عدا بعض الممارسات الروحية داخل الكنائس، لكن هذا التوجه للعقلانية، ليس اكتشافا كفكرة تم اختراعها من فلاسفة الأنوار أنفسهم، بل أن هذه النظريات ترتد إلى ما قبل عصور الأنوار، وتسمى في الفلسفة اليونانية باسم الخطاب، أو الكلام العقلي وفق المنطق الأرسطي (اللوغوس)، إذن المسألة كما هو واضح، أن فلسفة الأنوار في طرح العقلانية، انبثقت من التراث اليوناني الذي يمتد إلى عصور ما قبل الدولة الرومانية، وهذه عودة للخلف وليس للإمام بمقاييس هدفهم كما يقال أنهم لا يرجعون للوراء! وليس كما يدعي من انبهر بفلسفة الأنوار الغربية من بعض الباحثين العرب وتم اعتبارها (فتوحات العصر الحديث).

ومن هذه الرؤية الجديدة في الفلسفة الغربية في القرن الثامن عشر، بعد أن تم تجاهل القيم الدينية للمسيحية، لصالح العقلانية المادية. ولا شك أن للاكتشافات العلمية، وحدوث التغّيرات الفكرية الكبرى في الإنسان الغربي، أثرها الكبير في نجاح هذه التحولات الفكرية والفلسفية، في الفكر الغربي في ذلك القرن وما بعده، وكانت هذه الاكتشافات العلمية، هي السمة التي انجرف بعض الفلاسفة إلى مقولات مادية صرفة، وكلها كراهية في الكنيسة وما فعلته من محاربة للعلم والتقدم، دون مبرر في تحميل الأديان ممارسات لا تعبر عنه حقيقة، ولذلك كان لهذا التقدم العلمي أثره في أن البعض استغل هذه العلوم الحديثة لمآرب وأهداف وممارسات أخرى، بعيدةً عن العقلانية والرؤية العلمية البعيدة عن الأغراض الخاصة، فتحولت فلسفة التنوير في مناح فلسفية وفكرية واقتصادية شتى، وظهرت منظمات سياسية وصلت للحكم مثل الفاشية والنازية والصهيونية، وبروز الرأسمالية المتوحشة، والماركسية الشمولية، وغيرها من المساوئ ليست مجال نقاشنا، مع أن الشعارات التي رفعت في عصر التنوير مثل: مبدأ الإنسانية والمساواة بين البشر ـ العودة إلى العقل في الحكم والتفكير والممارسة ـ عدم الاعتراف بالفروقات في الطبيعة البشرية ـ مبدأ الحرية الفردية، صحيح أن هذه المبادئ، تمت مراجعتها بسبب الحريات العامة، وتم عودتها، بعد حراك سياسي وصحفي وتحركات مجتمع مدني قوي، ومن خلال التحركات الشعبية السياسية التي رأت بروز سلبيات في الرؤية الفكرية آنذاك.

ويرى العالم الألماني المسلم مراد هوفمان في بحثه (مستقبل الإسلام في الغرب والشرق)، أن منطلقات عصر الأنوار أصابها الكثير من التصدعات السياسية والفكرية، وظهور: «الفاشية، والستالينية، والنازية، والماوية (..)، وإن المحنة الأخلاقية والفكرية في زماننا، ومشكلة ما سمي بالعدمية والقيم النسبية، قد نجمت عن حقيقة أن خطاب العقل الذي حفظ الفكر الأوروبي منذ عصور التنوير، قد انهار.. وعلى الخلفية، يعد اتهام المسلمين بأنهم فوتوا فرصة التنوير التي لاحت لهم، ضربا من الفحش والقذارة». ولا شك أن مراجعة بعض العلماء والفلاسفة تجاه هذه الرؤية، كان واضحًا وشجاعًا، تجاه بعض الانحرافات الذي أصاب عصر التنوير، وتراجع المبادئ الأولى لمنطلقاته الفكرية، ومن هؤلاء كما يشير مراد هوفمان، الفيلسوف «كارل بوبر» الذي: «نبهنا إلى أن المرء لا يمكن أن يتيقن من صحة نظرية لمجرد أنها تعمل، وإلى أن الاحتمال هو أعلى درجات اليقين. والواقع أن التصرف بغير ذلك يرقى إلى الخرافة العلمية.. وقد طور فلاسفة غربيون مؤخرًا ممن تبعوا مارتن هيدجر، انفتاحًا على الدين نتيجة تحررهم من وهم قوة العقل وفقدانهم اليقين كلية، بحيث أصبحوا يستخدمون كلمة (حقيقة) بين حاصرتين ويعرفونها بأنها (حكاية معقولة». ونتيجة لانتقادات من الفلاسفة الجدد حصلت مراجعات لبعض مظاهر السلبية الناجمة عن الزهو في القوة العسكرية والاقتصادية من ردود الأفعال من فلاسفة ومفكرين في الغرب، على افتقاد التوازن لفكرة النهضة والتقدم الذي كان يجب أن يراد له أن يكون وسطيًا، وليس على ردود أفعال على ممارسات والانقلاب على الفكرة الأساسية، وفق الشعار الذي رفع في ذلك القرن.

ويقول الباحث قاسم شعيب في بحثه (مولد الليبرالية الغربية)، إن هدف هذه الفلسفة الغربية الحديثة، أنها أرادت أن ترتد إلى الذات، بعد انبثاق الحرية من صرامة الكنيسة، لكن: «مشكلة الفكر السياسي الغربي هو أنه أهمل التوازن الضروري بين العقل والرغبة، بل إنه جعل من العقل تابعًا للرغبة عندما ادعى الانتصار لمقولة الحق ضد مقولة الواجب، ولأجل ذلك سوف لن تكون لرغبات الإنسان حدود سوى رغبات إنسان آخر موازية لها، مما يعني ضياع القيم الأخلاقية في حمى الرغبات، وتحول الإنسان إلى كائن أحادي البعد، لا يرى في الحياة إلا إشباعا للذة المادية المحسوسة دون سواها». وهذا ما يبرز الآثار السلبية والانعطاف الخطير في فلسفة التنوير من خلال بعض الفلاسفة وردات الفعل غير المتوازنة تجاه رؤى وثقافات كانت سائدة، وتم إرباكها بنظم وفلسفات حادة، أسهمت في توترات فكرية، لاقت نقدًا كبيرًا حتى من الفلاسفة أنفسهم الذين لهم الموقف نفسه من الكنيسة، وينقل الباحث هاشم صالح في كتابه (الانسداد التاريخي)، عن الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «فراسوا ليوتار» أنه قال ضمن نقده لفلسفة التنوير: «إن الأساطير الكبرى للتنوير المتجسّد بالمشروع الغربي الليبرالي قد سقطت. وأن هذا التنوير فشل فشلا ذريعا. بل وصل الأمر بمدرسة فرانكفورت من قبله، أي فلسفة «أدورنو» و«هوركهايمر»، إلى حد اتهام العقل بأنه سبب كل الكوارث والمجازر التي حصلت في القرن العشرين!! وراحوا يتحدثون عن «كسوف العقل» أو أفوله النهائي بعد أن وصل بالغرب والعالم كله إلى هذا المصير». وهذا القول جاء من فيلسوف ليس متعاطفا مع القساوسة، لكنه مفكر وفيلسوف، متابع لما يحصل في القارة الأوروبية الفكرية، وفي غيرها.

ومن الباحثين العرب المرموقين والمعروفين باهتمامهم بالفكر الغربي وفلسفته، ومدارسه المتعددة، وله العشرات من المؤلفات، والدراسات الأخرى المتفرقة في مباحث أخرى مشاركة، وهو المفكر د. عبدالوهاب المسيري، فقد عاش في الغرب ردحًا من الزمن، قبل عودته إلى بلده مصر في عام 1969، ومن ضمن المفارقات التي أربكته وذكرها في كتابه (رحلتي الفكرية)، فيذكر أنه بعد عودته للتدريس في إحدى الجامعات المصرية، فيقول عندما: «ألقيت محاضرة عن الاستنارة الغربية نوهت فيها بمناقبها الكثيرة بما في ذلك عقلانيتها. ولكنني في المحاضرة التالية كنت أدرِّس الشعر الإنجليزي الحديث، وكان الدور على قصيدة ت.س.إليوت: «الأرض الخراب The Waste Land»، فتحدثت عن أزمة الإنسان الحديث وتفتته واغترابه عن ذاته وعن الطبيعة. وبينما كنت ألقي محاضرتي، أحسست بسخفي الشديد، إذ تساءلت كيف يمكن لحضارة الاستنارة أن تنتهي في ظلمات الأرض الخراب؟ كيف يمكن أن أبشر بالحضارة الغربية بعَدِّها حضارة الاستنارة من الساعة التاسعة حتى التاسعة وخمس وخمسين دقيقة، ثم أبيّن لنفس الطالبات أنها في واقع الأمر حضارة الأرض الخراب». هذه المفارقة جعلت د. المسيري، يغير انبهاره بالفكر الغربي، وبالتنوير، ويتحول إلى ناقد لها، في العديد من المؤلفات المعروفة في الساحة الفكرية والثقافية العربية.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين»