الفعل ورد الفعل بين الفطرة والمكتسب

19 يونيو 2022
19 يونيو 2022

يستلزم الأمر ابتداء، تعريف ماهية الفطرة، وماهية المكتسب، حتى تكون الصورة واضحة لدى المتلقي، فالأمر فيه التباس ما، أو شيء من التماس، وبالتالي يصبح في أمر الواجب أن يحدد التعريف الفرق بين الاثنين، لإزالة هذا الالتباس، ولتكن الصورة مشرقة إلى حد كبير، فالفطرة كما عرفها النص الشريف الذي جاء على حسب الرواية: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ( ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ، كما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِن جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ْ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) -الروم (30) وفق المصدر-. وهناك تعريفات أخرى ليس مجالها هنا، وعلى ما يبدو أن الفطرة تتموضع على معظم الإشباعات البيولوجية، وهذه مسألة مسلم بها إلى حد كبير، ولا تحتاج إلى كثير من المراهنات لإثبات حقيقتها فهي واضحة، وهذا الوضوح يعجل الفرق بينها وبين المكتسب، فالأكل والشرب، والحب والكره، والشبع والجوع وغيرها من التي نعرفها تنضم تحت قائمة الاحتياجات البيولوجية يطلبها الكائن الحي، ليس فقط بناء على رغبته متى شاء ومتى لم يشأ، وإنما المسألة مرتبطة ارتباطًا معنويًا بالنداء الداخلي للكائن الحي، أما المكتسب فهو مجموعة الخبرات والمواقف، والأحداث التي تمر بالإنسان، فتنقله من حالته البكر «الفطرة» إلى حالته الثانية المتدرجة بفعل مجموعة المكتسبات التي تحصل عليها طوال السنوات التي يعشها في حياته، وهي حالة غير مستقرة ولا تتوقف عند عمر معين أو مستوى معيشي معين، أو حتى مستوى معرفي معين، وإن اختلف الناس في فطرهم التي خلقوا عليها، فكذلك يتيح لهم المكتسب الكثير من التمايزات والاختلافات، وذلك مرهون كله بنوع البيئات التي يعيش فيها الفرد، وبما يتاح له من فرص ليعيش تجارب كثيرة ومختلفة، وفي الوقت الذي تلبي الفطرة الرغبات الأولية لحياة الإنسان، فإن المكتسب يتجاوز هذه الرغبات إلى مستوى اتخاذ المواقف، حتى في الوقوف أمام رغبة ما دون أخرى، ومعنى ذلك أننا واقعون في مفترق طرق بين الفطرة والمكتسب، وأن هناك تنازع ذاتي غير منكور بين كليهما.

ويبدو ثالثا: أن الوصول إلى توافق بينهما لكي نحقق شيئًا من العدالة هو نوع من الخرافة؛ لأنه يدخل في خانة شبه المستحيل، إن لم يكن المستحيل كله؛ وذلك لسبب بسيط وهو أن الفطرة مكون معنوي يولد في الإنسان، ويظل حبيس تجربته الخاصة فقط، وهو وإن تعددت أشكاله ووظائفه، إلا أنه يتموضع أكثر عند تلبية الإشباعات البيولوجية الأولية، أما الخبرة تظل حالة نامية ومتراكمة، وكلما استطاع الفرد تجاوز محددات الفطرة استطاع تعظيم قيمة المكتسب.

منذ فترة تم تداول عبر وسيلة الـ«واتس أب» تجربة على قردين؛ عرضت عبر قناة ناشيونال جيوجرافيك ملخصها أن الحارس أعطى كل قرد منهما حصوة صغيرة، ثم طلب منهما إعادتها إليه وفي كل مرة يعيد فيها القرد الحصوة يكافأ مع اختلاف المكافأة لكلا القردين في كل مرة، فلاحظ أن اختلاف المكافأة لكلا القردين انعكست على ردة فعلهما، حيث لم يتفاعل القرد الأول في المرات المتكررة لإعادة الحصوة عندما لاحظ أن القرد الآخر كفئ بأفضل منه، بل بالعكس صدرت منه ردة فعل غاضبة، وهذا يدل على أن المكتسب يؤثر على الفطرة، بل قد يغلب عليها، على عكس ما هو المثل الشائع الذي يقول: «الطبع يغلب على التطبع» فالفطرة هنا تحب المكافأة وتسعد بها، ولكن عندما كان المكتسب «المكافأة» مجزية تغيرت المعادلة، فأصبح النظر إلى مستوى المكافأة يتجاوز نداءات الفطرة، كما تم تداول مقطع مرئي لموقف محلي جمع ثلاثة أفراد، أحدهما يسأل اثنين التقاهما في مكان ما، عن أولوية الاهتمام بين الصحة والمال، فالشخص الأول فضل الصحة على المال «نظريا»، أما الثاني ففضل المال على الصحة، وعندما قام السائل بإعطاء المال للثاني «عمليا» كانت ردة فعل الأول غير متوقعة عند تكرار السؤال عليه، حيث فضل المال على الصحة؛ حيث رأى المال في يد صاحبه، فتغيرت القناعة في ذات اللحظة، فقد يقول قائل: إن ما حصل هو مشهد تمثيلي لا أكثر، ولكن الحقيقة هي كذلك حيث يمكن غض الطرف على نداءات الفطرة ومتطلباتها والانتصار للمكتسب، فتفضيل الصحة في المثال الثاني هو الأصل، وهل من عاقل يفاضل بالمال عن الصحة؟ يقينا لا، ولكن لما أصبح المال في متناول اليد، غرر بكل القناعات الموجودة، ورأها في تلك اللحظة على أنها تجاوز لحقيقة الواقع.

ولذلك نرى في كثير من المواقف وخاصة تلك التي فيها مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهنا المسألة واقعة بين اختيارين، الأول: البقاء على الحالة الساكنة غير المقلقة وهي من الفطرة، فهذا نداء الذات التي تستصعب المجازفة وترى فيها الهلاك، أما الثاني: فهي المغامرة «المكتسب» وهي المغرية بما سوف تجلبه لصاحبها من السمعة، ومن العائد المادي مثلا، ومن الاحتفاء به على أنه بطل، فالذي يحدث أن ينتصر أحدهما لهذا المكتسب ويغامر، وقد ينجح وقد يفشل، ولكنه في النهاية تجاوز ما كانت عليه الفطرة إلى ما يمكن أن تصبح عليه من نتائج المكتسب، وهذا ما يسير في الاتجاه نفسه ما تذهب إليه كثير من القيم الإنسانية السامية، المعبرة عن نداءات الفطرة السوية، وتذهب إلى ما سوف يحققه المكتسب من الإتيان بنقيض مختلف القيم كالصدق والأمانة، فمكتسبات كثيرة في الحياة لا تأتي بالطرق السوية، وبما يتوافق مع نداءات الفطرة، وإنما تأتي بالطرق الملتوية وهي طرق مكتسبة بالضرورة، فتلجأ إليها النفس لتحقيق شيء من الرغبات ولو كانت مؤقتة، ولذلك تسمع بعض المقولات التي يتلفظ بها بعض الجهلة مثل: «الأمانة ما تأكل عيش» أو أي قول يندرج تحت هذا الفهم والأمثلة كثيرة، طبعا ليس كل الناس على استعداد لبيع نداءات فطرهم السوية، لأجل مكتسب زائل؛ لأن في المسألة حساب وعقاب، ولذلك في المقابل هناك من يعيش في صراع نفسي شديد الوطيس بين القناعات الذاتية المنحازة نحو نداءات الفطرة، وبين مختلف المكتسبات التي لها عوائد مادية مباشرة، ولكنها لها عواقب وخيمة، فمنهم من يحظى برحمة الله عليه، فيتراجع -امتثالا لنداءات الفطرة السليمة- مضحيًا بهذه العوائد المادية المجزية ويحتسب ذلك عند ربه، ومنهم من يستسلم ليحظى بسعادة مؤقتة، فيها ما فيها من تأنيب الضمير ولو بعد حين، وقد تكون النتائج الوخيمة المتوقعة غير بعيدة عنه، فلا يهنأ بما اكتسبه خاصة إذا تعلق ذلك بظلم الآخر، حيث تحل الكارثة هنا.

تلعب البيئات الاجتماعية أكثر من غيرها، في تحديد توجهات الفطرة أو ترويضها، لتصل إلى مكتسب ما، وفق ما تذهب إلى تأصيله هذه البيئات، ولذلك يمكن النظر إلى إفرازات هذه البيئات من خلال الأجيال الناتجة عنها، انطلاقًا من ما يدور في هذه البيئات أصلًا، فهناك بيئات اجتماعية غير مستقرة سياسيًا فتنشئ أجيال متلبسة بالعنف وهو مكتسب، فتنتهج القتل والدمار، وأخرى غير مستقرة اقتصاديًا، فتنشئ أجيال متعطشة إلى المال وإلى السرقة، وهي سلوكيات مكتسبة، وثالثة غير مستقرة اجتماعيًا، فتنشئ أجيال ملتحمة بظلم الآخر، لا ترى في الود ملجأً، بقدر ما ترى فيه معرقلًا لمشروعها الظالم، ورابعة غير مستقرة ثقافيًا، فتنشئ أجيال متنازعة ومتصادمة في أفكارها ورؤاها، وخامسة غير مستقرة عرقيًا، فتنشئ أجيال بها من العنصرية والتمايزات الطبقية، وقس على ذلك أمثلة أخرى قد تلحظها في أثناء تجوالك حول بيئات العالم، سواء جولات مباشرة، أو جولات تنقلها إليك اليوم وسائل الاتصال المختلفة، لذلك تظل البيئات الحاضنة الكبرى لكل ما يغرب الفطرة التي فطر الناس عليها، إلى مجموعة من المكتسبات غير السوية؛ لأن المكتسبات السوية المتوافقة من الفطرة، هذا لا جدال عليها، ولا خوف منها، ولكن الأخرى هي التي يدور حولها الحديث المقلق؛ لأنها ذاهبة بأفرادها إلى الهلاك، وهنا هو مربط الفرس.