العلاقات التركية/ العربية في الجمهورية الثانية لتركيا

21 يونيو 2023
21 يونيو 2023

تحدثنا في المقال السابق عن الفوز الذي حققه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الأخيرة، وناقشنا المراحل التي قطعها حزب العدالة والتنمية، بعد فوزه المستمر منذ عقدين من السنين، وكيف استطاع منذ أول فوز له في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2002؛ أن يحقق للناخب التركي وُعودَه الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، خلال تلك المراحل الانتخابية في أربع دورات متتالية، وفي ظل حكم هذا الحزب، وقد اقترب في سياساته الخارجية التي بدأها من محيطه الجغرافي الشمالي والجنوبي، إلى جانب بقاء علاقاته مع الجناح الغربي في أوروبا الغربية، وبعض العلاقات المحدودة، مع أوروبا الشرقية عدا روسيا الاتحادية التي توسعت في السنوات الأخيرة، بعد السياسة التركية التي سارت عليها تركيا العلمانية في عهد الجمهورية الأولى التي أسسها كمال أتاتورك منذ عام 1924، بعد سقوط الخلافة العثمانية، التي كانت شبه منهارة بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى ـ كما أشرنا في المقال السابق ـ وكانت الدولة العثمانية تعاني قبل ذلك من التراجعات الكثيرة في السياسات في سنواتها الأخيرة، وهذه ليست مجال حديثها في هذا المقال، والذي تم تسميتها بـ(بالرجل المريض).

ولا شك أن تركيا.. هذا البلد الكبير منذ خمسة قرون، تراجع عن تأثيره في محيطه الإسلامي خاصة، التي كانت بعض بلدانه جزءا من هذه الدولة قبل ذلك، مع تشابك العلاقات معها، وتجذّرها في المجال السياسي والثقافي والديني، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي 1991، وانتهاء الحرب البادرة التي كانت مستعرة قبل ذلك، بين المعسكرين الكبيرين الغربي والشرقي، وبروز بعد ذلك ما عُرف بالأحادية القطبية بعد سقوط أحد القطبين كما أشرنا، وتفرّد الولايات المتحدة في الساحة الدولية دون منافس يُذكر، ثم دخولها في حروب مع العراق عام 1991، ثم أفغانستان عام 2001، بدأت تركيا بالتحرك بصورة محدودة تجاه الدول التي خرجت من منظومة الاتحاد السوفييتي، وخاصة الدول الإسلامية في البلقان وآسيا الوسطى، بحكم الجذور التاريخية العرقية والدينية، وشجّع الغرب هذا التوجه التركي الجديد، ربما حتى لا تقترب الصين من هذا المحيط الجغرافي المهم، لكن البدايات الإيجابية للاقتراب من العالم العربي، كانت في عهد تورغوت أزال كرئيس للوزراء ثم رئيسا للجمهورية، لكن العلمانيين لم يعطوا له الفرصة الكافية لتقوية العلاقة مع هذا المحيط وتمتينها بصورة أوسع وأكبر، وأتذكر أنه في عام 1988، جاء الرئيس التركي تورغوت أوزال في زيارة للمملكة العربية السعودية لتأدية فريضة الحج، وكنت عضوا في اللجنة الإعلامية ببعثة الحج العمانية، وقد ترأس البعثة في ذلك العام سعادة أحمد بن سعود السيابي، وكانت له مواقف جيدة تجاه حديثه في إحدى المناسبات بإيجابية عن العرب ودورهم الإسلامي، كرد على بعض ما يقوله بعض السياسيين الأتراك، ذوي التوجه الكمالي عما جرى بين الدولة العثمانية وبعض السياسيين العرب في أوائل القرن الماضي، وبعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002، بدأ النظام التركي تحركا جديدا تجاه تنمية العلاقة مع العالم العربي عموما، وزار الرئيس عبدالله جول زيارات عديدة؛ بعض الدول العربية بعد فوزه عام 2007، ثم أيضا الرئيس رجب طيب أردوغان لثلاث دورات انتخابية تالية بوصفه رئيسا للجمهورية، لتعزيز العلاقات البينية والتبادل التجاري وتوسيع الشراكة الاقتصادية، مع الدول العربية، وخاصة دول مجلس التعاون.

ومن أفضل المواقف السياسية التي اتخذتها تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية مواقفها من التحالف الغربي لغزو العراق عام 2003، وهو الموقف الرافض لدخول قوات التحالف الغازية من الحدود التركية، وهذا جرى في ظل غلبة حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي، ويرى المفكر المصري الأستاذ فهمي هويدي في أهمية الحوار التركي/ العربي، أنه من المهم للطرفين العربي والتركي أن يمدا الجسور بينهما، وهذا:»يفتح الطريق إلى إنجاز خطوات أبعد، أحسب أنه يمهد للمثقفين لكي يضيفوا أو يسلكوا هذا الطريق، بحيث إذا كانت الحكومة التركية هنا قد نجحت في تحقيق توجه إقامة علاقات مع الحكومات العربية في محيطها، فإن المثقفين أقدر من غيرهم على أن يكملوا الشوط، بحيث يمدون جسور المحبة والتعاون والفهم بين الشعوب». ولا شك أن تركيا كانت الأسبق في هذا التحرك تجاه البلاد العربية حقيقة، خاصة مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم مباشرة، صحيح أن العلاقات العربية والتركية، نتيجة لتراكمات قديمة سابقة، جعلت التعاون متأرجحا في بعض السنوات، خاصة في بداية هذا الحكم الجديد لكنه ازداد بالتدرج المقبول، لكن مع أحداث الربيع العربي عام 2011، حصل بعض الانحصار والفتور في العلاقة مع بعض الدول العربية، لكنها ظلت في الحدود الضيقة، مع تناميها مع دول عربية أخرى، لكن مع الخلاف الذي حصل بين بعض دول مجلس التعاون ودولة قطر عام 2016، ووقوف تركيا إلى جانب قطر سياسيا وعسكريا، جعل بعض هذه الدول، تختلف مع تركيا في هذا التوجه، وتوقفت بعض الاتفاقات المعقودة معها لبعض السنوات، نتيجة لهذه الأزمة، لكنها لم تصل إلى مستوى أكبر مما عليه، وبقيت أزمة صامتة مع هذه الدول، عدا بعض المناوشات الإعلامية سرعان ما انتهت بانتهاء الخلاف، ثم عادت العلاقات مرة أخرى بصورة أكبر وأعمق، خاصة مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، واعتُبر الخلاف مجرد سحابة صيف عابرة، وعادت العلاقات المتينة بينهما مرة أخرى، بأقوى مما كانت من حيث التعاون الاقتصادي والشراكة بينهما بالمليارات، وآخرها زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة للجمهورية التركية مؤخرا، وهذا يبرز التوجه الجديد لهذه العلاقة الجديدة وتقويتها كما عادت العلاقة بين تركيا مع مصر ومملكة البحرين.

ولا شك أن هناك رغبة تركية جادة في تقوية العلاقة مع دول الجوار العربي بالأخص الخليجية، وهذا ليس في الجانب الاقتصادي وحده، لكن هذه العلاقة ذات أبعاد ثقافية ودينية، ومن هنا فإن العلاقات مع البلاد العربية، تفيد الطرفين وتعززها في مجالات كثيرة، قد يكون الجانب الاقتصادي يأخذ الأولوية في الظروف القائمة بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن الروابط الأخرى لا تقل أهمية، ومنها الجانب التكنولوجي ـ العسكري والتقني، إذ أصبحت تركيا متقدمة في هذا الجانب المهم، والتوقعات أن تصبح تركيا من الدول العملاقة في النهضة العلمية والتكنولوجية، فتركيا منذ نصف قرن في فترة الحرب الباردة، في ظل تركيا الكمالية، والسيطرة العسكرية على مقاليد الأمور، كانت مجرد دولة رهينة في رؤيتها السياسية والاقتصادية للغرب والعلاقة معه، ولذلك ـ كما يقول الباحث د. محمد نور الدين ـ لم تحصد تركيا سوى «عزلة إقليمية ودولية. وفضّلت أن تبقى حبيسة الأيديولوجية الكمالية التي رسمها أتاتورك، التي نظرت إلى الإسلام والإسلاميين على أنهم عدوّ داهم لتركيا، وإلى العرب على أنهم لا يوثق بهم، ولا يؤمن جانبهم. في المقابل فإن العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل والغرب وحدها هي التي تضمن استمرار بقاء تركيا دولة علمانية وخارج تهديد وحدتها الإقليمية».

هذه النظرة المتغرّبة من بعض النخب السياسية والعسكرية العلمانية التركية التي استكانت للغرب ونظرته ورؤيته للعرب والمسلمين، دون أية معايير منطقية وعقلانية تجاه تاريخها المحيط والمهم، واهتم الغرب به أكثر مما اهتمت به تركيا الكمالية، مع تاريخها الممتد مع العرب والمسلمين! وهم من هذه الفكر ومن هذه الثقافة، فكيف يتم التفريط في العلاقة معهم؟ ولذلك بدأ نجم الدين أربكان في البداية، في النشاط السياسي ـ مع زملائه وتلاميذه ـ فقد آلمهم أشد الألم أن تتخلى تركيا عن محيطها العربي والإسلامي ـ جنوبه وشماله ـ ويترك للغرب الرأسمالي والليبرالي وحده لهذه العلاقة، وكان يفترض أن تكون العلاقة معه في حدود العلاقة الطبيعية، دون أن تخسر تركيا محيطها، بينما قوّى الغرب معه علاقات كبيرة من كل النواحي، وتوارت تركيا عن مجالها الحيوي والمهم لكن حزب العدالة والتنمية أدرك بوعي حكيم ورؤية عقلانية ثاقبة أهمية العلاقة مع البلاد العربية، ومع بلدان البلقان وآسيا الوسطى، والأخيرة كانت العلاقة معها قائمة ومتنامية من فترة أطول، ومنها جمهورية أذربيجان، التي خصتها الجمهورية التركية باهتمام أكبر، بسبب احتلال أرمينيا لبعض حدودها، واستطاعت أذربيجان بدعم تركي أن تستعيد إقليم (كار باخ)، المحتل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. فالعلاقة مع البلاد العربية في عهد الرئيس أردوغان، دخلت منعطفا جديدا ومتناميا، ولذلك توفرت أرضية جيدة للعلاقات العربية /التركية خاصة مع دول مجلس التعاون، وفق المصالح المشتركة، والتي نمت وتطورت بصورة مطردة خلال السنوات القليلة الماضية من خلال التعاون الاقتصادي، كما أن العديد من الدول العربية لديها شراكات مهمة مع تركيا، ويمكن أن يؤثر هذا التحول في السياسات الاقتصادية المشتركة، في مجال التجارة والاستثمار، وتمتد آثاره في جميع دول المنطقة.