العقد الاجتماعي للتنمية الإنسانية 2022
يركِّز تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2022 (تعظيم الفرص لتعافٍ يشمل الجميع ويُعزِّز القدرة على مواجهة الأزمات في حقبة ما بعد كوفيد-19)، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في المكتب الإقليمي للدول العربية، على (فهم) تداعيات الجائحة على المنطقة العربية، حيث يتمحور حول (مفهوم التنمية البشرية)، الذي "يدعو إلى توسيع الفرص أمام الأفراد ليستمتعوا بحياة منتجة وذات مغزى وممكَّنة، وسط الحد من الضغوط التي يرزح تحتها الكوكب، وتعلُّم العيش بتناغم مع الطبيعة" - حسب التقرير -.
لذا فإن هذا التقرير يأتي في مرحلة مهمة من حياة دول المنطقة بعد ما مرَّت به خلال الجائحة من النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية، ليعزِّز الفهم العام للأولويات التنموية على المستويات الوطنية والإقليمية، وفرص معالجة التحديات التي تواجه الدول العربية والعالم بشكل عام، فالمنطقة العربية تتميز بتنوعها التنموي ما بين الدول مرتفعة الدخل أو المتوسطة أو المنخفضة، و(تلك الهشة والمتأثرة بالأزمات)، وكلها تأثَّرت بتداعيات الجائحة التي أنتجت العديد من التحديات المتفاوتة على صعيد (الحوكمة والاقتصاد والمجتمع)، وعلى الرغم من التدابير التي اتخذتها الدول أثناء تفشي الجائحة، إلاَّ أن التحديات الجيوسياسية الجديدة الناشئة في أعقاب (حرب أوكرانيا) قد أدت إلى بطء التقدم في التعافي أو حتى تأخيره.
لقد استعرض التقرير مجموعة من الحلول التي يمكن للدول العربية اتخاذها من أجل تسريع التعافي وتعزيز قدرة المجتمع على مواجهة الأزمات، من ذلك؛ (إقامة شبكات سلامة اجتماعية واقتصادية)، و(سد الفجوة الرقمية)، و(تعزيز نمو القطاع الخاص)، و(دعم حوكمة سريعة الاستجابة وخاضعة للمساءلة، و(زيادة الوصول إلى الخدمات الاجتماعية)، إضافة إلى تعزيز (التماسك الاجتماعي). كما تطرَّق إلى أهمية فهم متطلبات الضغوط العالمية التي يمر بها الكوكب، وواقع ارتباط الدول العربية وتأثرها بالمتغيرات البيئية والمناخية، وتحديات نضوب الماء والأمن الغذائي، والتي تمثل أحد أهم التحديات المهمة في المرحلة المستقبلية، وبالتالي أهمية ربط مرحلة التعافي بمسار الاتجاه نحو (الاستدامة)، من خلال تحسين السياسات التي تحمي شبكات (الأمان البيئية) وتطويرها، بما يحقق ما يطلق عليه بـ(التعافي الأخضر).
ويؤكد التقرير أهمية الشراكة بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع العام والخاص، والأوساط الأكاديمية وصانعي السياسات في تحقيق (تعافٍ شامل) لما بعد الجائحة، لضرورة هذا التكامل في تأسيس منظومة قادرة على توجيه مسار التعافي نحو تحقيق الأهداف التنموية الوطنية، فالمجتمع يملك المعرفة، ويستطيع اعتمادًا على كوادره البشرية الممكَّنة من وضع (عقد اجتماعي جديد)، يستند إلى معايير قائمة على (التناغم مع الطبيعة)، و"خلق فرص اقتصادية للجميع، وضمان تمتع المواطنين بالحقوق، وتعزيز ارتباطهم بمؤسسات سريعة الاستجابة" - على حد تعبيره -، وبالتالي تعزيز فرص الازدهار والاستقرار والرفاه.
يصنف تقرير البرنامج الإنمائي سلطنة عُمان في (مؤشرات التنمية البشرية ومكوناتها) من بين الدول (ذات التنمية البشرية المرتفعة جدا)، سواء في اتجاهات دليل التنمية البشرية (1990-2019)، أو في دليل التنمية البشرية معدلا بعامل عدم المساواة (2010-2019)، أو في دليل التنمية حسب النوع الاجتماعي (1995-2019)، أو في دليل عدم المساواة حسب النوع الاجتماعي، أو في الحالة الصحية، أو في الإنجازات في التعليم، أو في الدخل القومي وتركيبة الموارد، أو العمل والتشغيل، أو نوعية التنمية البشرية، أو تمكين المرأة، والاستدامة البيئية وغيرها من مكونات القياس التي وضعت عُمان بين تلك الدول التي جعلت من (التنمية الإنسانية) غاية وهدفا تنمويا أساسيا تقوم عليه الغايات التنموية الوطنية كلها، ولعل أهمية مراجعة تفاصيل تلك المؤشرات وتقييمها سيكون له الأثر الأكبر في إيجاد سبُل أفضل لتعزيز أوجه التنمية البشرية في الدولة وتمكينها بما يُعظِّم دورها التنموي الفاعل في تحقيق الأهداف الوطنية.
ولأن تعظيم الفُرص هو الغاية التي تنشدها الدول بعد جائحة كوفيد-19، فإن هذه الفرص لا تتأتى سوى من خلال التحوُّل إلى (عقد اجتماعي قائم على الطبيعة)، الذي سيفرض علينا تحولا في قيم التنمية ونماذجها؛ ذلك لأن تلك المخاطر التي أشار إليها تقرير (التنمية الإنسانية العربية للعام 2022) سواء أكانت مرتبطة بتداعيات الجائحة، أو بالمتغيرات الجيوسياسية، أو البيئية والمناخية، فإنها تستدعي برنامجا تنمويا قائما على (الطبيعة وأنظمة المساءلة والعدالة والمواطنة البيئية). الأمر الذي يعني أننا جميعا أمام مسؤولية كبرى تبدأ بمستوى فهم تلك التحديات من ناحية، وقدرتنا على المشاركة الفاعلة والمسؤولة في مواجهة الأزمات المستقبلية من ناحية أخرى، ولهذا فإن ذلك (العقد الاجتماعي)، يجب أن يتأسس على منظومة الشراكة المجتمعية التي نحن جزء أساسي منها.
إن التنمية البشرية تتأسس على بناء القدرات وتطويرها، من أجل ضمان تمتع الأفراد بالحياة الكريمة، إلاَّ أن هذه التنمية عليها أن تكون قائمة على إمكانات ومهارات مناسبة لطبيعة المجتمعات، وقادرة على مواجهة الأزمات، لذلك فإنها يجب أن تكون (مستدامة)، ومتماسكة اجتماعيا، مبتكرة اقتصاديا، متصالحة مع الطبيعة والبيئة، واعية بانتمائها الوطني، ومنفتحة على المتغيرات العالمية. لذا فإن مرتكزات التنمية البشرية يجب أن تقوم على التطلعات المستقبلية، بحيث يكون المجتمع قادرا على مواجهة التحديات والأزمات القادمة.
يحدثنا تقرير (خطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. خطة رأس المال البشري 2022)، الصادر عن مجموعة البنك الدولي، عن ذلك الطموح الداعم لبلدان المنطقة لتصبح (منطقة تضع رأس المال البشري في صميم مسار تعافٍ أخضر وقادر على الصمود وشامل للجميع) - بتعبير التقرير -، وذلك عن طريق تسخير تلك الإمكانات التي تتمتع بها والموارد البشرية (غير المُستغلة)، التي تمثل رأس المال البشري، وهي (الشباب والنساء وكبار السن)، إضافة إلى أهمية إكساب الأطفال (مهارات أساسية قوية) تمكِّنهم من الاستعداد للمستقبل ليكونوا أكثر قدرة على الإبداع والابتكار، وبالتالي أكثر مرونة وصمودا في وجه المتغيرات والأزمات المستقبلية.
ولهذا فإن الرؤية التي يقدمها إصدار البنك الدولي للوصول إلى التعافي الشامل تقترح صياغة ثلاث أولويات مترابطة هي؛ (تعويض خسائر رأس المال البشري)، و(إصلاح الأنظمة)، و(إعادة تصور لرأس المال البشري وتهيئته للمرحلة المقبلة)، وهي أولويات تقوم على ما خلَّفته الجائحة من انتكاسات في النواحي التنموية كلها، إضافة إلى تلك الأزمات الجيوسياسية والصراعات التي واكبت الجائحة، والتي أدت إلى تفاقم تداعيات الأزمة الصحية وانعكاساتها على المجتمعات عامة والأفراد بشكل خاص.
إن تلك الرؤية تستدعي (التحوُّل الرقمي) الذي يجب أن يكون تحولا بـ (وتيرة سريعة للغاية) - بتعبير البنك الدولي -، ليتمكن من اعتماد التكنولوجيات الرقمية والأتمتة والأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي في تقديم الخدمات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، مما سيشكل قوة (دفع جديدة) في (العقد الاجتماعي)، ليكون (رأس المال البشري محركا رئيسا للنمو والاستقرار)، اعتماد على مبدأ الثقة بين الحكومات ومواطنيها.
إن النهج الثلاثي الذي اعتمده البنك الدولي في جعل رأس المال البشري (محركا قويا للنمو الأكثر خضرة وشمولا وقدرة على الصمود في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، يعتمد على (التعويض)، و(الإصلاح)، و(إعادة الصياغة)، وهو نهج يقوم على تعويض الخسائر الصحية والتعليمية والتدريبية، وإصلاح كفاءة الأنظمة الصحية والتعليمية بشكل خاص وقدرتها على الصمود في مواجهة الصدمات والأزمات المستقبلية، وإحداث تحولات في أنظمة (الحماية الاجتماعية) من أجل مستقبل الأعمال، و(إعادة صياغة رأس المال البشري وتهيئته للمرحلة المقبلة)؛ من خلال بناء قاعدة مهارات للاقتصادات الخضراء والرقمية، والاستفادة من التحول الرقمي، و(تعزيز الشمول في سوق العمل على نحو يراعي الجنسين والفروق بينهما).
والحق أن هذا النهج الثلاثي يتطلب مبدأ الشراكة في العمل بين الحكومة والقطاعات العامة والخاصة والمدنية والأفراد كل حسب مجاله، بُغية تعزيز الكفاءة، وتوسيع نطاق العمل المشترك القائم على التعاون وتضافر الجهود، لتقديم الخدمات والإنجازات والابتكارات التي تُمكِّن رأس المال البشري من العمل بكفاءة وفاعلية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، إلاَّ أن هذه الشراكة تتطلَّع إلى مجموعة من التسهيلات والسياسات المرنة التي تسمح بالعمل بسهولة ويسر، وتمكِّن (رأس المال البشري) من المشاركة الوطنية الفاعلة.
