العرب وإيران... التعايش ليس مجرد خيار

07 يونيو 2023
07 يونيو 2023

أُعيد هذا الأسبوع افتتاح سفارة إيران في العاصمة السعودية الرياض، في خطوة مهمة لعودة العلاقات الكاملة، وإنهاء قطيعة دامت عقودا بين أكبر بلدين في المنطقة، وقطبين لهما ثقلهما وتأثيرهما في العالم الإسلامي.

عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران تبدو مقدمة لإصلاح ما تلف من علاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وباقي الدول العربية، ولا سيما مصر، الدولة العربية المركزية الأخرى وذات الثقل والتأثير في العالم الإسلامي.

إيران، مثلها مثل الهند وباكستان وتركيا، جزء من جغرافيا وتاريخ المنطقة العربية والإسلامية، تربطها بالشعوب العربية، وعلى وجه الخصوص شعوب الخليج والجزيرة العربية، علاقات سياسية وتجارية تعود إلى عصور ما قبل الإسلام. ثمة تاريخ ممتد ومتصل بين ضفتي الخليج، هجرات وتعايش بين الجانبين، جاء الإسلام في جزيرة العرب وانتشر في بلاد فارس، كما في بقاع الأرض الأخرى، فوطن المهاجرين بين ضفتي الخليج، وأسكنهم وجعل منهم أصحاب بلاد ذات عقيدة دينية واحدة. لكن هذا التاريخ الممتد في هذه الجغرافيا المتداخلة، بحرا ويابسة، لم يخلُ يوما من صراع وتدافع، كحال أي اجتماع بشري، غير أنهما تحولا أو تطورا، في حالات عديدة، إلى صراع وعداء وحروب، يتحمل الطرفان المسؤولية فيها، ولكن بأقدار متفاوتة.

كانت فارس في عهود ما قبل الإسلام، وفي محطات تاريخية عديدة في عهود ما بعد ظهور الإسلام وقيام دوله، قوة مهيمنة، إمبراطورية ذات أمجاد ومآثر وتراث سياسي وثقافي وعلمي كبير، لكن الزمان دار عليها، كما دار وسيدور على غيرها، فتحولت في العصر الحديث من دولة غازية إلى مغزية، ومن قوة مُستَعمِرة إلى أرض تناهبت أطرافها مخالب الاستعمار، وإن لم يتمكن منها كليا كما تمكن من الهند، غير أن الاستعمار الغربي؛ البريطاني، ثم الأمريكي، جعل من إيران تابعا له، ناهبا لثرواتها، وسوقا لمنتجاته، رغم ذلك بقي الإيرانيون، في عهد الحكم الملكي، وعلى مستوى أقل في عهد الجمهورية الإسلامية، يحتفظون بقدر من كبرياء الماضي وأنفته، فلم ينسوا - ولا تستطيع الأمم الكبيرة نسيان الماضي بسهولة - أن بلادهم كانت قوة مهيمنة وأن هيمنتها تجلتّ، أكثر ما تجلت، على جيرانها العرب على الضفة الأخرى من الخليج.

في العهد الملكي، كان الجالس على عرش الطاووس في طهران، الشاه محمد رضا بهلوي (حكم من 1941، حتى قيام الثورة ضده في 1978) ينظر ويتعامل مع بعض دول الخليج العربية بوصفها توابع لعرشه، وحتى إلى ما بعد استقلال هذه الدول وتأسس بعضها الآخر، وتفجر الثروة النفطية فيها، وكان يدّعي تبعية بعضها لملكه، ومع الجزر الثلاث التابعة لدولة الإمارات العربية (أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى)، وهي ادعاءات لا سند لها، لكنها مما تركه لنا المستعمر البريطاني من أمراض وتعقيدات. وعندما قامت الثورة على النظام الملكي البهلوي بقيادة آية الله الخميني، وقامت الجمهورية الإسلامية، لم تتغير النظرة كثيرا، فبقيت ادعاءات العهد الملكي في خطاب الجمهورية الإسلامية، وبقيت السيطرة على الجزر العربية الثلاث، لكن أضيف إليها، ما جعل من لغة الادعاء والتعالي في العهد الملكي، تهديدا مباشرا في عهد جمهورية الثورة، وهو خطاب تصدير الثورة ونشر مبادئ الجمهورية الإسلامية إلى الضفة الأخرى، مصحوبا بخطاب إنهاء مظلومية الأقليات الشيعية في دول الخليج العربية، وأمست مخاوف العرب القديمة مخاطر محدقة باستقرار ووحدة وهوية دولهم، ثم جاءت التقارير الغربية، الأمريكية تحديدا، وفيها من التلفيق أكثر مما فيها من الحقائق، لتدفع بالعداء بين الجانبين إلى مدى أكبر، ولتتم توسعة الشرخ بين الجانبين وتعميقه وتحويل الصراع من سياسي إلى مذهبي، أي مما يمكن حله بالتفاوض والحوار إلى ما هو عميق يستدعي الماضي وشخوصه وفتنه وحروبه ويصعب التفاوض والحوار عليه وحوله.

على الجانب الآخر، يتحمل العرب قدرا من المسؤولية في ديمومة العداء والصراع بينهم وإيران، وأكبر الأخطاء العربية هي اصطفاف دول الخليج العربية، باستثناء سلطنة عُمان، خلف العراق في الحرب التي أعلنها صدام حسين ضد الجمهورية الإسلامية في إيران أو ضد الثورة الوليدة بهدف وأدها وإعادة الوضع في طهران إلى ما كان عليه، وكأن ما حصل يوم 7 يناير 1978 هو انقلاب عسكري، وليس ثورة شعبية عارمة وجذرية. أخطأ صدام حسين في إعلانه الحرب والدفع بجيشه إلى الأراضي الإيرانية يوم 22 سبتمبر 1980 وأخطأ معه العرب، الذين اندفعوا وراءه، على إيقاع الخوف من تصدير الثورة إلى بلدانهم، وكانت النتيجة، بعد ثماني سنوات من القتال، نحو مليون قتيل من العراقيين والإيرانيين، وخسائر تجاوزت كلفتها 350 مليار دولار، تحملت ميزانيات بعض دول الخليج نسبة كبيرة منها.

انتهت الحرب ووّقع الجانبان اتفاقية «تجرع السم» بحسب وصف الزعيم الإيراني آية الله الخميني، لكن العداء بين العرب وإيران لم ينته. وفي حين التفت الإيرانيون إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب، وقد تراجع خطاب تصدير الثورة وتراجع معه شعور دول الخليج العربية بالخطر الإيراني، جاء الخطر الحقيقي، الفعلي وعلى الأرض وليس مجرد خطاب ولغة مظلوميات، جاء من حليف الأمس، وممن ادعى حماية دول الخليج من الخطر الفارسي، فبعد أقل من عامين من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، دخل الجيش العراقي (فجر 2 أغسطس 1990) دولة الكويت وهدد بالتمدد إلى المملكة العربية السعودية، وباتت دول الخليج تحت تهديد وجودي مباشر.

كشفت الحرب العراقية الإيرانية ثم احتلال العراق للكويت جملة من الحقائق فيما يتعلق بالعلاقة بين دول الخليج وإيران، أهمها؛ أن الثورة الإيرانية كانت حالة إيرانية في المقام الأول، وأن الشعب الإيراني تجرع من كأس المظلومية السياسية والقمع والاضطهاد في ظل حكم الشاه ما فاض عن قدرته على الاحتمال، وأن الثورة التي انفجرت في يناير 1978 كانت نتيجة عمل سري وعلني استمر أكثر من عشرين عاما، وأن الزعيم الخميني لم يكن سوى الواجهة لقوى مدنية ودينية عديدة ومتنوعة، بما في ذلك اليسار والليبراليون والشيوعيون وطبقة التجار (البازار). ومن تلك الحقائق أيضا أن ذلك الطيف غير المتجانس لقوى الثورة كانت تصطدم بعضها ببعض، وقد بدأت الصدامات والتصفيات وملاحقة القوى المحافظة للشيوعيين واليسار وغيرهم، وأن الثورة - ربما - لن تُنتج حكومة «رجال الدين» بذلك القدر من التماسك والقدرة على البقاء في وجه القوى الأخرى لو لم تجد نفسها في مواجهة عدو خارجي هو العراق، وأن عدو إيران، (عراق صدام حسين)، انقلب على عقبيه ليصبح عدو دول الخليج العربية.

تعمّق سوء الفهم وفقدان الثقة بين الجانبين، بسبب الماضي البعيد والقريب وبسبب حربي صدام حسين ضد إيران ثم ضد الكويت ودول الخليج، وبسبب نتائج ومفاعيل الحربين، من حرب تحرير الكويت وكلفتها الباهظة على دول الخليج، إلى الاحتلال الأمريكي للعراق وتدميره واستتباعه لإيران، وما نتج عن ذلك من تدخل إيران، ليس في العراق فحسب، ولكن في غير بلد عربي كما هو معروف.

حروب الماضي وصراعاته وفتنه السياسية والطائفية باقية، لكنها جزء من الماضي والتاريخ، لا يمكن محوها، إنما يمكن نسيانها وتجاوزها وطي صفحتها، ولإخوتنا في الخليج والعالم العربي عموما، في تجربتنا في عُمان مثالا. وحدها عُمان من جرّب واختبر الاستعمار الفارسي، وبين العمانيين والفرس جولات من الحروب، منذ القرن الثاني الميلادي وحتى النصف الأول من القرن الثامن عشر، رغم ذلك، فإن عُمان أخذت من تاريخ الصراع درسا في التعايش مع الجار الإيراني، ليس تعايشا ثنائيا فقط، بل سعت، على مدى العقود الأربعة الماضية، إلى إصلاح ذات البين بين العرب والإيرانيين، وجعل الحوار مدخلا لحل الخلافات، وكانت تنجح تارة وتخفق تارة أخرى، بقدر رغبة الأطراف في التقارب من عدمه.

عادت العلاقات بين الرياض وطهران بعد محاولات وجهود كبيرة بدأت في مسقط وانتهت في بكين، وثمة اليوم جهود عُمانية لعودة العلاقات بين القاهرة وطهران، توجتها زيارتا جلالة السلطان مؤخرا إلى كل من القاهرة وطهران.

إيران دولة كبيرة ومؤثرة في المنطقة، والسعودية ودول الخليج ومصر دول كبيرة ومؤثرة في المنطقة، والتعايش والتعاون الأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي ليس خيارا فقط، بل حتمية وجود، وشرط استقرار وتقدم.