العدل والظلم في السياسات الدولية

14 نوفمبر 2023
14 نوفمبر 2023

قلت في مقالي السابق «عن النفاق وأشكاله» إن العدالة هي القيمة الأخلاقية العليا؛ ولكن مفهوم «العدالة» لا يمكن تصوّره إلا من خلال مفهوم «الظلم»: فالعدالة تظل دائمًا مقاومة للظلم ومحاولة للانتصار عليه، والعدل والظلم ليسا فحسب بظاهرتين تتعلقان بسلوك الناس أو الأفراد بعضهم إزاء بعض، وإنما تتعلقان أيضًا بسياسات الدول بعضها إزاء بعض. هذه الحالة الثنائية من العدل والظلم تتجلى بوضوح في سياسات الدول الغربية بوجه خاص؛ لأنها تمارس سياسات ازدواجية تبلغ حد حالة «الفصام العقلي»، وهي حالة ناتجة عن ميراث طويل من الخلل العقلي والثقافي في التعامل مع الآخر المختلف في الدين والهوية والجغرافيا أيضًا. كيف نفسر هذه الذهنية الازدواجية، وكيف نطبقها على السياسات الدولية الراهنة للغرب. هذا أمر يحتاج إلى شيء من التفصيل.

لا شك في أن معظم الناس في الشرق، وفي عالمنا العربي بوجه خاص يودون أن يعيشوا في بلدان الغرب المتقدمة، وربما يبرهن على ذلك تلك الموجات من الهجرة من بعض البلدان العربية والإفريقية عبر البحر في رحلات مميتة غالبًا من أجل العبور إلى الشاطئ الآخر من شمال البحر المتوسط، ولعل ذلك يكون عندهم مقدمة لبلوغ الحلم البعيد، وهو الوصول في النهاية إلى الغرب الأمريكي! لماذا؟ ببساطة لأن هؤلاء يهربون من الفقر المدقع الذي يعيشونه في بلدانهم، ولأنهم يحلمون بالعدل والحياة الكريمة مما يفتقرون إليه في بلدانهم، وهو ما تنعم به شعوب الغرب بفضل السياسات الديمقراطية التي تنتهجها الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية: فمعظم الناس في هذه الدول يمكن أن يعيشوا حياة كريمة، وكل امرئ منهم يعرف أن صوته له قيمة في تشكيل السياسات، ويعرف أن هناك قانونًا عامًّا يحكمه مثلما يحكم الآخرين؛ ومن ثم فإنه سوف يحصل على حقوقه المدنية في تعامله مع الآخرين ومع الدولة نفسها. ولهذا السبب؛ فإن من ينجحون في الوصول إلى الغرب والعيش فيه، لا يودون غالبًا الرجوع إلى أوطانهم مهما كان حنينهم إليها، اللهم إلا في حالات نادرة.

ومع ذلك، فإننا عندما نتأمل الأمر من خلال منظور أوسع، نجد أن هذه الدول الديمقراطية نفسها لا تمارس هذه الديمقراطية، ومن ثم العدالة، إلا فيما يتعلق بسياساتها الداخلية التي تسري على شعوبها؛ أما فيما يتعلق بسياساتها الخارجية، فإنها تمارس أبشع أشكال الظلم والعدوان إزاء الشعوب الأخرى المغايرة التي هي بالنسبة لها هي «الآخر» الذي تمارس عليه الاستعلاء، بل العدوان الذي يبلغ أحيانًا حد الإبادة لهذا الآخر من أجل تحقيق مصالح نفعية تهدف إلى السيطرة والهيمنة والاستغلال. ذلك أن العقلية الغربية مستمدة من تراث طويل من استعمار الشرق باعتباره الشرق الأدنى بالمعنى الجغرافي والحرفي أيضًا: فهو أدنى ليس فقط باعتباره أقرب من الأقصى، وإنما أيضًا باعتباره الآخر الأقل قيمة؛ وهذا الآخر تم تصنيفه في مقولات متوارثة لدى المستشرقين، كما أفصح عن ذلك المفكر الكبير إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق». ولكن الشرق أدناه وأقصاه لم ينجُ من ظلم الغرب له واستعماره له. ويكفي أن نذكر هنا بريطانيا التي استعمرت معظم دول العالم حتى سميت بأنها الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها؛ وذلك بهدف واحد هو استغلال ونهب الدول التي استعمرتها. وحتى الدول الضئيلة في الغرب الآن مثل البرتغال قد مارست السياسات الاستعمارية فيما مضى، ولم تنجُ من عدوانها عُمان التي انتصرت عليها وقهرتها في النهاية. ولكن عدوان الولايات المتحدة على دول العالم لا مثيل له في التاريخ، فهو تاريخ متأصل من الدموية والظلم والعدوان يرجع إلى نشأة هذه الدولة نفسها الذي لا يزيد على مائتين وخمسين سنة، وهو تاريخ ضئيل بالنسبة إلى تاريخ أية مدينة عربية عتيقة.

تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الضئيل قام منذ البداية على عقلية استعمارية دموية استهدفت إبادة السكان الأصليين من الهنود الحُمر، وهي الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة النووية حتى الآن، والتي استهدفت معظم دول وشعوب العالم في فيتنام وفي حرب الكوريتين وفي أمريكا الجنوبية وفي أفغانستان والعراق، ومؤخرًا في غزة التي يُباد شعبها بأسلحة أمريكية فتاكة. وفي كل هذه الحالات وغيرها ارتُكبت مذابح وجرائم حرب قُتِل فيها الملايين من البشر باعتبارهم العدو الذي ينبغي قتاله: فهناك حاجة دائمًا لخلق عدو لتبرير الظلم والعدوان، وقد كان هذا العدو في أحيان كثيرة هو روسيا، والآن هو روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران معًا، وكان في أحيان كثيرة هو الإسلام، أقول في أحيان كثيرة؛ لأنه في أحيان أخرى كان يتم استخدام الجماعات الإسلامية الراديكالية، ومنها القاعدة وطالبان؛ من أجل تحقيق المصالح الأمريكية والغربية في مواجهة عدو آخر كالسوفييت في مرحلة سابقة؛ ثم أصبحت هذه الجماعات نفسها هي العدو الجديد بحجّة تطهير منطقة الشام منها. ولكن مصالح الشعوب لم تكن يومًا هدفًا حقيقيًّا للمبادئ الإنسانية التي تدّعيها الولايات المتحدة والغرب، من قبيل: الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، وما إلى ذلك؛ فهذه المبادئ والنظم جديرة بشعوب العالم الغربي، ولكنها ليست جديرة بالآخر، خاصة الآخر المتمثل في شعوب الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل.

هذه الازدواجية تتبدى حتى في المنظمات الدولية الكبرى التي تقف عاجزة في مواجهة الظلم والعدوان على المستضعفين؛ لأنها منظمات تبقى خاضعة للهيمنة الأمريكية. ولذلك فإنه لا سبيل إلى تقليل حجم الظلم في العالم إلا عندما يسعى النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب -الذي يتشكل الآن- إلى تغيير بنية وآلية عمل المنظمات الدولية الكبرى التي تحكم العالم.