العدل الدولية بين العدل والانحياز

28 يناير 2024
28 يناير 2024

يعيش العالم اليوم تصادمات كثيرة تفضي بشبابه إلى حالة من التحوّل للعبثية واللاجدوى، أو حالة أخرى من الوعي العميق بأقنعة الواقع المعاصر وتبدلها وفق مصلحة الأقوى على مسرح القوى المركزية في العالم، وبينهما إما اختيار اليأس والاستغراق في عالم مادي يستنزف ما بقي من روحه وعقله، أو اختيار الاحتراق بنار الوعي العميق والتحليل المنطقي، وبين ناري الجهل والمعرفة لا بد من ضوء يقيني يلوح في نهاية هذا النفق منتصرا للإنسان.

عمّ الصخب جماهير العالمين الواقعي والافتراضي بعد ثبوت الهجوم الدولي (ولا نقول الإسرائيلي وحسب) على غزة في أكتوبر الماضي، وعايش الجميع خذلان الحكومات لشعب غزة الأعزل مهما كانت مبررات العدوان لإبادة شعب أعزل، ومع هذا الخذلان العام تدافعت جماهير الناس التي شكل الوعي تحركاتها بعد يقينها بصحة المنشور من مواد سمعية بصرية تعكس واقع الإبادة الجماعية على أرض فلسطين، وما كان تحرك دولة جنوب أفريقيا إلى تقديم دعوى لمحكمة العدل الدولية إلا انعكاس لأثر هذا الحراك الشعبي العالمي، وقوة تأثير الرأي العام لتشكيل ردود فعل رسمية وحراك قانوني دولي.

مبادرة جنوب أفريقيا في اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لاقت ترحابا جماهيريا عالميا، واحتفاءات في كل الأوساط القانونية والتجمعات المدنية الفاعلة، وما ذلك إلا لتمثيلها صوت المقهورين المغلوب على أمرهم، وصوت الضحايا ورجع صداه قبل خفوته بفعل الإبادة المعلنة التي يشهدها العالم صامتا متخاذلا، ومع هذه المبادرة المنظمة حاول كثير التقليل من شأنها وقد أحرجت الكثيرين ممن كانوا أولى بالتصدر لها والنهوض بمسعاها، والحق أنها ما زالت تحرجهم إذ إنهم لم يدركوها بعد تخاذل متلبسا زي عدم الجدوى!

هؤلاء المتخاذلون تداولوا بينهم دعاوى عدم جدوى الدعوى رغم قوة الحجة، ودقة التفاصيل، ووضوح أركانها في اتهام إسرائيل وحلفائها بالإبادة الجماعية، مبررين هذا التهميش للدعوى بأن مهما يكن من حكم المحكمة فإنه غير ملزم لإسرائيل بأي شكل من الأشكال، وهو قول مردود منقوص رغم بعض صوابه؛ إذ إن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة دون آلية لتنفيذ هذا الإلزام! ولكنه مضلل في جانبه المتعلق بعدم جدوى الدعوى نهائيا؛ إذ حسب الدولة التي نهضت بهذه الدعوى انتصارها للإنسان أولا بعيدا عن أي اعتبارات مادية، ثم انتصارها للحق ولشريعة القانون الدولي الرافضة لكل أشكال الإبادات الجماعية عرقيا أو دينيا أو طائفيا، ولا يستطيع عاقل إنكار ما كان من أثر هذه الدعوى التي أجبرت إسرائيل وحلفائها على الوقوف متهمة بالإبادة الجماعية أمام قضاة محكمة العدل الدولية في سابقة نادرة، رغم كل محاولات الأخيرة للتضليل والإنكار في دفوعها المصنوعة، كما لا يمكن إنكار أثر هذه الدعوى جماهيريا وتأثيرها على الوعي الجماعي لمتابعي هذه الإبادة الوحشية، ومتابعي هذا التقاضي في محكمة العدل الدولية.

نأتي لحكم المحكمة الذي أراه مخيبا للآمال مع كل ما أثبتته جنوب أفريقيا بفريقها المخلص من ركني الإبادة الجماعية المادي والمعنوي، مع كل أدلة استهداف المدنيين في المدارس والمستشفيات ودور العبادة، ومع كل تصريحات الكيان الغاصب وحلفائه العسكريين العنصرية تجاه شعب فلسطين، والقول بأن الحكم أتى مخيبا للآمال لا يعني عدم جدواه يقينا لكنه لم يكن عادلا إذا ما نظرنا إلى حكم سابق للمحكمة إزاء دعوى قدمتها أوكرانيا ضد روسيا في الصراع بينهما وسرعة استجابة المحكمة للدعوى ووضوح حكمها الذي قضى بوقف فوري لإطلاق النار حينها، مع صياغتها الخجلى للحكم المتعلق بمطالبة إسرائيل ضمان سلامة المدنيين، كل ذلك مع اختلاف السياقين وقوة حجة فريق جنوب أفريقيا واتساع دائرة أدلته على جرائم ووحشية الإبادة الجماعية، لم نعد بحاجة لاستقراء ازدواج المعايير في المنظمات الدولية، كما لا ينبغي أن إغفال أن الحكم كان أفضل ما يمكن مع إدراك حرب القوى والنفوذ.

يمكننا كذلك أن نحلم بتأثير عربي إسلامي شرقي يتابع دعوى جنوب أفريقيا لنحتفي بدعاوى مستمرة تتقدم بها كل هذه الدول فرادى أو مجتمعة؛ رفضا لحرب الإبادة في غزة وانتصارا للدم العربي المهدور، وانتصارا للحق الذي لا يمكن لأي لعبة إعلامية تشتيته أو إخفاؤه.

من المضحك المبكي بعد كل ذلك استغلال إسرائيل وحلفائها عدم الوضوح في اتهامها صراحة بالإبادة من قبل محكمة العدل الدولية لتسعى لاستفزاز العالم بتصريحات من قبيل تعليق نتانياهو على الحكم «تهمة الإبادة الجماعية الموجهة ضد إسرائيل ليست كاذبة فحسب، بل إنها شنيعة، ويجب على الأشخاص المحترمين في كل مكان أن يرفضوها»، أما وزارة الخارجية البريطانية فقد أكدت أنه «لا يمكن وصف تصرفات إسرائيل في غزة بأنها إبادة جماعية، ولذلك نعتقد أن قرار جنوب أفريقيا بإحالة القضية إلى المحكمة كان خاطئا واستفزازيا»!، وأخيرا يأتي تصريح البيت الأبيض في أن «القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لا معنى لها، لعدم وجود تعمّد إبادة جماعية، إن العدد الحقيقي للقتلى المدنيين في غزة هو صفر»! فإن كانوا يطالبون بالركن المعنوي في قصدية الإبادة الجماعية مع كل ما يقع أمام مسمع ومرأى العالم من ماديات عسكرية أعدت وجهزت واستخدمت لأشهر كاملة لتصفية الشعب واستهدافه مدنيا ومؤسساتيا ومعنويا، إضافة إلى تصريحات المسؤولين الواضحة بهدفها في القضاء على الكل فلا نملك إلا ترديد بيت المتنبي:

«وليس يصحُّ في الأذهانِ شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليل».

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية