العامة.. مجموعة من الإسقاطات والاتهامات
لا يزال الحديث عن العامة حديثا متشعبا، ويأخذ منحنيات فكرية مختلفة تنوعا في الفهم والتفسير، ونوعيا في الأداء والنتائج، ونوعا في الشكل والصورة، وكلها تذهب بفهم مختلف لهذه الـ"عامة" وبذلك تؤرخ العامة فصولا جديدة في كل مرحلة من مراحل عمر المجتمعات الإنسانية، وبهذا التأريخ تؤكد نفسها حضورا لافتا؛ لا يمكن أن تلغيه دائرة الزمن، وديناميكية الحياة اليومية، بمعنى أن العامة بانتمائيتها الاجتماعية ستحافظ على هويتها، وعلى صفاتها، وعلى تفرعاتها، وعلى تناقضاتها، وعلى مآلاتها الذاهبة نحو التقدم، أو التأخر؛ لأن الفاعل في كل ذلك هو هذا الإنسان الذي أسنِدت إليه مهمة إعمار الأرض ومَن عليها، ولأنه جزء لا يتجزأ من هذه العامة سيظل مكرّسا جهده نحو تفريغ جهده، وفكره، ورؤاه نحو تطويرها، وإعطائها الدور الذي تستحقه في كل زمان ومكان.
أود هنا التفريق بين مفهومين: عوام الناس والعامة؛ فالأول مخصوص لذاته، وله توصيفاته الخاصة، وهو الأقرب إلى الفردانية المطلقة، بينما الثاني أشمل، ويضم الجميع "عوام الناس وخاصتهم"، ويقيم بحشدية الجمهور، وشموليته الواسعة، وإن حاول البعض لتفريغه من محتواه الشمولي باجتزاء الخاصة منه، ولكنه على مستوى المجتمعات الإنسانية يظل هو المعبّر عن هذا الامتداد البشري المتعدد الأوجه والمقاصد، والثقافات، والأعراق، والأجناس، والنوع "الجنس" فعامة الناس في غنيهم وفقيرهم، جاهلهم ومتعلمهم، صغيرهم وكبيرهم، سيدهم ومسودهم، فهذه اللوحة الفسيفسائية المتنوعة، والمتقاطعة، في مشاربها وأشكالها وأنواعها تحمل هذا المفهوم، وتتسع من خلاله، ولا يمكن تجزئة هذه الصورة؛ وإلا اختلف المعنى، وتماهت الصورة بين مجمل الصور المكوّنة للمجتمع الإنساني، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية على المحافظة على صورة العامة لكونها الحاضنة الكبرى للمجتمع في ثنائياته المتخصصة، أو في فردياته المتميزة، ومعنى ذلك أن كل الاشتغالات والبرامج الذاهبة إلى تعزيز الفرد هي في النهاية تظهر هذه الصورة المتماسكة، وهذه الصورة الاحتفالية المعبّرة عن هذا الاهتمام، ومآلات العامة وغاياتها؛ تظل هي مجموعة الاشتغالات التي تصب في خانة الوطن الكبير.
تنظر بعض الدراسات في الجانب السيكولوجي إلى مآلات العامة وغاياتها بكثير من الاهتمام؛ لأنها المقياس لنشاط أفراد المجتمع، وبالتالي فمتى وجدت هذه الدراسات شيئا من التغيير في سلوكيات العامة، وأنشطتها الاجتماعية، عُدّ ذلك نوعا من التطور، والتطور هنا قد يكون إيجابيا، وقد يكون سلبيا، وفي كلا الحالتين يتطلب البحث عن الأسباب والمسببات، ففي حالته الإيجابية يذهب التوجه إلى تعزيزها، وفي حالته السلبية يتطلب الأمر البحث في الأسباب، ومعالجتها، خوفا على ما سوف تؤول إليه حالة العامة في حاضرها أو مستقبلها، وفي الوقت نفسه يذهب قياس الرأي لأنشطة العامة إلى ضرورة عدم زج الأفراد -بخصوصيتهم الفردية- في متون العامة، أو التماهي فيها؛ خوف الوقوع في مأزق القدرة على الاستقلال في الرأي أو اتخاذ القرار الصحيح، في الوقت المناسب، حيث يظل الفرد -حينها- مرتهنا وفق ما سوف تؤول إليه أنشطة العامة، وما سوف تصل إليه من غايات، وهذا ما يجب أن يكون، خاصة في ظل توسع المعرفة، وقدرة الفرد على التفريق بين الخطأ والصواب، ولذلك فالاستقطابات التي تحدث لذوي الوعي البسيط، وعدم الإدراك لخطورة الكثير من التوجهات، كثيرا ما تحدث من بين أحضان العامة، ومعنى ذلك فالفرد في مجموع العام عليه مسؤولية كبيرة لحماية نفسه من هذه الإسقاطات أو الاستقطابات، وإلا وقع في المحظور.
من المفاهيم الحديثة لإسقاطات العامة مفهوم "عقلية القطيع" وهو مصطلح إعلامي بالدرجة الأساس، مع أن العامة بشموليتها الواسعة، تشكل ممارسات عقلية القطيع فيها جزءا جانبيا، قد يكون محددا أو محدودا، ولا يمكن الحكم مطلقا، على أن العامة بهذا الاتساع أن تعكس تصرفات أفرادها وفق مفهوم عقلية القطيع، والتي تصل بالفرد لأن يتنازل عن كل قناعاته وخبراته، ومواقفه، ويتماهى في القطيع، ويستسلم له في كل ما يقوله، وما يقوم به من فعل، ولو كان هذا الفعل يؤدي به إلى مآوي الردى والهلاك؛ وإلا عُدّ ذلك نوعا من تجاوز المفاهيم، أو مبالغة في تحجيم حقيقة العامة، وعدم إنصافها بما يجب أن تكون عليه، ولعل هذا يشكل جزءا من الحقيقة، وليس الحقيقة بكاملها، لأن هناك، في المقابل، ممارسات كثيرة تقوم بها العامة، تعبّر عن تصرفات راشدة، يكن لها الاحترام والتقدير، دون أن تدخل، حتى، في أي تصنيف مهني، ولذلك فـ"العامة" حاضنة لكل هذه التموجات البشرية، ومن يكون ضمنها، لا يمكن أن يقال إنه أسقط نفسه في متونها، فهو منها وإليها، وانتمائه إليه هو انتماء الفرع إلى الأصل، ولا مشاحة تُذكر هنا، لسمو هذا الانتماء، وأصالته، وحقيقته.
لعله من أقسى الأحكام التي تواجه العامة هو احتساب خطأ الفرد على الجماعة، وهذا الخطأ في المقياس الاجتماعي، ينظر إليه بكثير من الاهتمام، ويقيّم على أنه واحد من الإخفاقات المحسوبة على الجماعة كلها، وبذلك، وفق هذه الصورة، تُحاكم الجماعة، ولا يُحاكم الفرد فقط، ويتحمّل خطأه، وهذا الأمر ليس سهلا في موازين الجماعة، إلا أن المجتمعات الحديثة اليوم خففت من وطأة الذنب الذي تشعر الجماعة نفسها به، وذلك من خلال المؤسسات المدنية، التي تتعامل مع الفرد أكثر من تعاملها مع الجماعة، فهناك سجل مدني يؤرخ لكل فرد منذ لحظة ميلاده، وإلى لحظة وفاته كل أنشطته، وتحركاته، وبذلك تخفف العبء عن العامة، وظلت هي الحاضنة للفرد أكثر من أنها المعبّرة عنه في كل صغيرة وكبيرة، وإن نظر المجتمع المدني على الجماعة الراشدة على أنها ركن أساسي من أركان قوام المجتمعات الإنسانية، ولا يمكن الاستغناء عنها في مختلف إخفاقات أفراد المجتمع، صغيرها وكبيرها، على حد سواء، وبذلك تسجل العامة عمرا مستحقا مستمرا للبقاء والاستمرار في حيوات المجتمعات حديثها، كما كان في قديمها، وهذا ما يعكس حيوية الإنسان، بشكل عام، وقدرته على المساهمة الفاعلة في الحياة اليومية التي تنتصر فيها العامة لكينوناتها، وصفاتها، وهوياتها على حد سواء.
تقع العامة عموما، وبصورة دائمة، في مأزق الإسقاطات المجتمعية، ويحكم على كل نشاطات أبنائها فيقال عنهم بأنهم من العامة، وهذا الاتهام الضمني المبطن، بقدر ما يسقط العامة في لجج الاتهامات على الامتداد الأفقي للمعرفة، فإنها في المقابل، تنجز الكثير من المهمات والمسؤوليات في البعد الرأسي للمعرفة، فجل المفكرين، وأصحاب الإنجازات العلمية والفكرية، وقادة الرأي، هم من العامة، وإن اكتسبوا فيما بعد صفة الخصوصية الضيقة المتكورة على ذاتها وعلى خصوصياتها، وعلى تفاعلاتها. صحيح أن العامة "حمَّالة أوجه" -كما توصف- وذلك لوجود هذا الكمّ الهائل من البشر الذين يمثلون العامة، ولكنها في المقابل فإن صورة "حمَّالة أوجه" هي ما يعطيها التنوع والتميز في كل شؤون الحياة، بل يعطي الحياة نفسا استشرافيا لما يمكن أن يخطط له في قابل الأيام، وذلك لما تحتويه العامة من هذا التنوع البشري والفكري والعلمي، بل هي الصورة الحقيقية لمعنى الحياة في أي مجتمع كان، ومن ضمن هذه الاتهامات الموجهة إلى العامة هو تضييقها على الفردانية، حيث تظهر نتائج الأعمال معبّرة عن صورة العامة، وليس عن صورة الفرد الواحد، وهذا مما يُعاب عليها، ولذلك قد تتصادم العامة مع خصوصية المجتمعات الحديثة، التي ترفع من مستوى الفرد، وتحجم من مستوى الجماعة، بينما تزهر العامة في المجتمعات التقليدية، وتحظى بالتفاتة كبيرة؛ لأنها روح المجتمع، وهويته، وانتمائه الكبير، وذوبان الفردية هنا، ليس معناه أن الإنجاز الفردي غير ملتفت إليه، إطلاقا، ولكن يظل محسوبا على ما تتميز به العامة من وجود هؤلاء الناس من أصحاب الإنجازات المهمة في حياتها، وينظر إلى هذا الفرد بكثير من التقدير، والاحترام والتبجيل؛ لأنه يعبّر من روح العامة وحقيقتها الإنسانية والاجتماعية.
• أحمد الفلاحي كاتب وصحفي عماني
