الـعالَـم يسـقُـط أخلاقيا في غزة

06 أبريل 2024
06 أبريل 2024

يكشف الحصار العنيد المضروب على غزة عن جانب مظلم للإنسانية. فعلى مدار الأشهر الستة الأخيرة، أُعـلِـن ما يزيد عن 100 ألف فلسطيني قتيلا أو جريحا أو مفقودا، والغالبية العظمى منهم من المدنيين الأبرياء الذين لا يتحملون أي مسؤولية عن الهجوم المروع الذي نفذته حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023.

أخيرا، أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار والإفراج الفوري عن الرهائن الذين تحتجزهم حماس. الآن بات لزاما على كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ــ وخاصة حلفاء إسرائيل السياسيين والعسكريين ــ أن تبذل كل ما في وسعها لضمان تنفيذ القرار بالكامل في أقرب وقت ممكن. الواقع أن سكان غزة الذين نجوا من الهجمات العسكرية الإسرائيلية، ينتظرهم مزيج قاتل من النزوح والجوع والمرض. فقد تسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل على الإمدادات الإنسانية والغذاء والمياه النظيفة في تحويل الحياة في القطاع إلى كابوس. وتفيد تقارير صادرة عن وكالات الإغاثة أن الأمهات يلدن دون تخدير، وأن صِـغار الأطفال يموتون بسبب الجفاف وسوء التغذية، وأن المرض يدمر مجتمعات بأكمها. ولأن كل من يتواجد في غزة ليس في مأمن من المذبحة، فقد وصلنا إلى عتبات الإبادة على نطاق السكان بالكامل. الآن، تتردد أصداء الصدمة فتنتقل عبر مختلف أرجاء المنطقة. ويعاني سكان غزة من اضطرابات ما بعد الصدمة والحزن، ويحتاج أكثر من مليون طفل بشدة إلى الدعم النفسي الاجتماعي. ويضيف الدمار الأخير إلى المعاناة الناجمة عن الحصار الذي تضربه إسرائيل على غزة منذ 18 عاما. وفي الضفة الغربية، يواجه الفلسطينيون تهديدات عديدة، بدءا من عنف المستوطنين غير المقيد والتهجير القسري إلى التهديد المستمر بالاعتقال التعسفي. في الوقت ذاته، لا يزال أكثر من مائة إسرائيلي محتجزين كرهائن لدى حماس، في انتهاك للقانون الإنساني الدولي، وهذا يؤدي إلى إطالة أمد الآلام التي تشعر بها أسرهم وأسر المدنيين الذين قتلوا في السابع من أكتوبر. وقد يأتي الأسوأ إذا تحدت إسرائيل تحذيرات أقرب حلفائها، ومضت قدما في خططها لشن هجوم على رفح، التي تؤوي حاليا 1,5 مليون نسمة، بما في ذلك أكثر من 600 ألف طفل. وقد عانى كثيرون من أولئك الذين يبحثون عن ملجأ في هذه المدينة الحدودية بالفعل من الصدمة الناجمة عن النزوح عدة مرات خلال نصف العام الأخير. ولابد من منع أي توغل عسكري إسرائيلي واسع النطاق. أكتب هذه الكلمات باعتباري شخصا نظر في أعين الشباب الفلسطينيين أثناء إعداد تقرير الأمم المتحدة لعام 1996 حول تأثير الصراع المسلح على الأطفال. في حديثنا مع الأطفال في مخيمات اللاجئين، وعدناهم بأن معاناتهم ستنتهي. الحق أننا لم نفشل في الوفاء بهذا الوعد فحسب؛ بل إننا تركنا عالما أكثر عدائية لأطفال تصادف أنهم ولدوا فلسطينيين. وأنا أحمل على كاهلي دوما هذا الفشل المؤلم.

أكتب هذه الكلمات أيضا بصفتي عضوا في مجموعة الحكماء، وهي مجموعة من القادة العالميين المستقلين والتي شاركت في تأسيسها مع زوجي الراحل نيلسون مانديلا، والتي ترأسها في سنواتها الأولى رئيس الأساقفة ديزموند توتو والأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان. لقد أعطانا ماديبا (مانديلا) تفويضا بالعمل من أجل ضمان السلام والعدالة وحقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، وكان دائما يعتبر تحرير فلسطين المفتاح لضمان الحياة في عالم عادل وحر للجميع. فكيف لأي منا أن يتحدث بمصداقية عن حقوق الإنسان العالمية وسيادة القانون الدولي في حين نسمح باستمرار هذه الوحشية والاحتلال لعقود من الزمن؟

وسط كل هذا اليأس والافتقار إلى الشجاعة الأخلاقية بين أولئك الذين يملكون القدرة على وقف المذبحة الحالية في غزة، أشعر بالفخر إزاء حس القيادة الاستثنائي الذي أظهرته جنوب إفريقيا عندما تقدمت بشكوى ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية. الواقع أن الحكم الأولي الصادر عن محكمة العدل الدولية في السادس والعشرين من يناير، والتدابير الإضافية التي أمرت بها في الثامن والعشرين من مارس، تدين صراحة الفظائع التي تحدث في غزة، ولا تترك مجالا لأي غموض بشأن الخطوات التي يجب على إسرائيل اتخاذها لحماية الفلسطينيين الأبرياء، بما في ذلك توفير المساعدة الإنسانية على نطاق كبير ودون أي عوائق. يتعين على إسرائيل والدول التي تقدم لها المساعدات العسكرية والمالية أن تستجيب للنتائج التي توصلت إليها المحكمة وأن تحترم التزاماتها بموجب القانون الدولي. لكننا لسنا عاجزين في مواجهة هذه المعاناة الهائلة. باعتبارنا أعضاء في أسرة بشرية واحدة، يتعين علينا أن نلبي الواجب الأخلاقي المتمثل في التحدث صراحة وعلنا ضد هذه المظالم في دوائر نفوذنا. نحن قادرون على ممارسة سلطتنا من خلال نشاطنا الفردي والمجتمعي. ومن خلال أصواتنا واحتجاجاتنا، يمكننا ــ بل يتعين علينا ــ أن نطالب بالمساءلة من جانب قادتنا السياسيين. وإليكم ما يجب أن نطالب به. أولا، الحاجة ماسة إلى فتح طرق برية إنسانية إضافية لتلبية الاحتياج الهائل للمساعدات المنقذة للحياة. ويجب ضمان سلامة عمليات تسليم المساعدات في كل الأوقات. من الواضح أن إسقاط المساعدات جوا والممر البحري المقترح مؤخرا غير كافيين، ولا ينبغي لهما أن يسمحا بإعفاء إسرائيل من مسؤوليتها تجاه المدنيين في غزة. ثانيا، يتعين على زعماء العالم أن يستخدموا نفوذهم العسكري والمالي لإجبار إسرائيل على وقف انتهاكاتها للقانون الدولي والامتثال لأوامر محكمة العدل الدولية. ويجب على كل الدول التي تقدم المساعدة العسكرية لإسرائيل أن تضع هذه الشحنات قيد المراجعة فورا وأن تضع شروطا جديدة لتقديمها في المستقبل. إن أولئك الذين يواصلون تزويد إسرائيل بالأسلحة يساهمون في تمكين ارتكاب المذبحة وربما يورطون أنفسهم كمتواطئين في ارتكاب جرائم حرب. ثالثا، يجب على صناع القرار تقديم الدعم المالي والسياسي الكامل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). لقد سارع كثيرون من المانحين إلى تعليق تمويل المنظمة، في انتظار نتائج التحقيقات في مزاعم إسرائيل بأن بعض موظفي الأونروا شاركوا في هجوم السابع من أكتوبر. هذه الاستجابة المتعجلة غير المتناسبة تعرض الآن للخطر بشكل غير مسؤول حقوق ورفاهية ملايين من اللاجئين الفلسطينيين. الواقع إن الحكومة الإسرائيلية لم تُـخـف رغبتها في تفكيك الأونروا إلى الأبد. فهل نسمح لها بأن تصبح ضحية أخرى للحرب؟ يستلزم الوضع الحالي العمل المتضافر من جانب تحالف واسع من البلدان الملتزمة بالسلام العادل والدائم الذي يمكن الإسرائيليين والفلسطينيين من التعايش في ظل ظروف من الاحترام المتبادل، وتقرير المصير، والكرامة، والأمن. إن حياة الفلسطينيين والإسرائيليين وأمنهم على ذات القدر من الأهمية والقيمة. وإذا لم تكن الـغَـلَـبة لهذه الحقيقة الأساسية على نظرة الزعماء السياسيين والمواطنين العاديين، فسوف نستمر في التخلي عن أجيال من الأطفال الأبرياء.

غراسا ماشيل نائبة رئيس منظمة الحكماء، ومؤسسة مؤسسة غراسا ماشيل.

خدمة بروجيكت سنديكيت