العالم.. بين الحرب والمجاعة؟
تلقى الاقتصاد العالمي ضربة قوية جراء الحرب في أوكرانيا. زاد من الضرر أنها اندلعت بينما كانت مختلف دول العالم ما تزال تعمل على الخروج والتعافي من أزمة تفشي فيروس "كوفيد-19" التي تسببت بأضرار فادحة على مدار العامين السابقين، وكانت بالمناسبة، مرتفعة التكاليف بشكل لم يكن مرتقبا، حتى أنها هزت الوضع الاقتصادي الأميركي نفسه، وهو الأقوى والأمنع في العالم. لكن هذا لم يكن الأسوأ... الذي لم يتأخر.
فقد دخل متحور "أوميكرون" بشكل مفاجئ ليضاعف من الاضطراب الاقتصادي العالمي ويتسبب بتراجع إضافي في أسواق الأسهم العالمية، الأمر الذي يشير إلى أن العام الحالي (2022) سيكون على الأرجح، من أصعب الأعوام التي لن تنتهي كما ابتدأت. من جانب آخر، فإن أضرار الحرب ما انفكت تتفاقم في عمق الشرق الأوروبي، متجاوزة القارة العجوز لتنال بآثارها العالم برمته، منذرة بتأثيرات سلبية ستكون متواصلة، وبأضرار هائلة وعميقة، ولاسيما على مستويات الطاقة والغذاء بشكل أساسي، ما لا بد أن يغرق العالم (وبلادنا من باب أولى) في موجة جديدة كاسحة من العوز ومن التضخم والركود. ومن شأن ذلك أن يعكس نتائج كارثية على مختلف الاقتصادات، بصرف النظر عن حجمها، كما على الأسواق المالية الناشطة في كل مكان.
أدت تأثيرات الحرب في أوكرانيا ومفاعيلها إلى تسريع حالة الركود العالمية بشكل ملموس، وتسببت بارتفاع كبير في أسعار السلع التي لا غنى عنها، الأمر الذي اضطر البنوك المركزية، وبخاصة في الدول الكبرى، إلى الإسراع للتدخل بقوة في محاولة لكبح الضرر. صاحب ذلك قدر كبير من الضغوط على هذه البنوك بالذات من أجل رفع أسعار الفائدة، بهدف مواجهة ارتفاع نسب التضخم التي راحت تحلق من دون كوابح. وتحتم على حكام المصارف المركزية التجاوب برفع أسعار الفائدة كثيرا من جهة، مع بذل المزيد من العناية والحذر من الجهة المقابلة، للحيلولة دون أن يؤدي هذا الرفع، حين يزيد عن حدود معينة، إلى التسبب بانخفاض النمو وإبطاء الأنشطة الاقتصادية. وكان كل ذلك من نوع الإجراءات الضرورية التي لا يمكن التحكم تماما بنتائجها. فكلما رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة، كان ارتفاع الركود ينتظرها على المنعطف.
خلاصة القول إن هذه المستجدات أساءت بشدة للوضع الاقتصادي على مستوى العالم برمته، فسادت حالة ضاغطة من التضخم اضطرت الاقتصاديين إلى متابعة مؤشرات السوق باهتمام كبير، متخوفين من جملة الإشارات القوية على قرب انفجار حالة ركود ضخمة، في ظل هبوط متواصل لمختلف المؤشرات الاقتصادية. وفي الوقت عينه كانت المشكلات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا تزداد تفاقما مع تزايد ضراوة الحرب، من دون أن يكون بالإمكان تجنب انعكاساتها السلبية، ما راح يرفع وتائر الضرر المتراكم. وفي حين كان العالم أحوج ما يكون إلى تلمس إشارات، ولو جانبية، على تهدئة هذه الحرب أو الاقتراب من وضع حلول أولية لها، راحت الأزمة تتحرك باضطراد نحو المزيد من الحدة مع ازدياد المواجهات اشتعالا وضراوة، لترتفع معها الضغوط على الاقتصادات في كل مكان.
هكذا تراكمت التحديات العامة الواسعة والمصيرية التي لم توفر بلدا أو شعبا، واشتدت الأزمات الحياتية المرافقة، ليس على مستوى القمح والوقود فقط، أكثر السلع ضرورة وحيوية بالنسبة إلى الإنسان في شتى أصقاع الأرض، بل أيضا على مستوى جميع السلع الأخرى التي تشكل مادة الحياة والإنتاج. وتأكد بما لا يقبل الشك أن معضلة الأمن الغذائي تضغط بقوة على العالم كله، وظهرت مخاوف من احتمال أن تضرب الأزمة الناشبة حلقات الصناعة الرئيسة في كل من أوروبا وأميركا (وهما قلب العالم الصناعي)، فتعيق عجلة إنتاج السيارات والطائرات وكذلك الأجهزة والأدوات المنزلية والمكتبية وكل ما ينبغي أن يخرج من المصانع إلى المجتمع.
وهكذا اجتمعت مختلف العناصر التي يمكن وصفها بالكارثية، لتضع الكوكب المترنحة اقتصاداته على حبال التضخم والركود (في سبيلها إلى الكساد)، فوق صفيح ساخن، مما لم يسبق أن عرفه العالم ربما منذ أزمة "الكساد االكبير" (بيغ كراش) التي اندلعت في ذلك "الثلاثاء الأسود" في 29 أكتوبر من العام 1929، عندما انهارت سوق الأسهم الأميركية وانخفض الناتج الإجمالي العالمي بشكل كبير، فتعرض العديد من أكبر البنوك والمؤسسات المالية العالمية للإفلاس. في ذلك الحين تسببت الأزمة بتفكك العلاقات الدولية وانهيارها، وبتضاعف التناقضات بين الدول التي كانت تعتبر غنية (وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية وإنكلترا وفرنسا) والدول التي كانت فقيرة حتى في الغرب ذاته يومها (ألمانيا وإيطاليا واليابان). وهذا ما اعتبره البعض في حينه من الأسباب التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
فهل يمر العالم اليوم في طريق مشابه...؟
يحصل التضخم بسبب ارتفاع جانب الطلب في الاقتصاد مقارنة بالعرض، فترتفع بنتيجة ذلك أسعار السلع والخدمات المطلوبة، ما يؤدي تلقائيا إلى زيادة المستوى العام للأسعار. فالسلع التي كان يشتريها المستهلك بمبلغ معين قبل موجة التضخم، لا يعود بوسعه شراءها تحت التضخم إلا بمبلغ أكبر. وهذا يتسبب بخلل في العلاقات بين أسعار الخدمات والسلع، وتكاليف العناصر الإنتاجية لها (مثل ثمن المنتجات وأجور القائمين بالخدمات ومستويات الأرباح).
أما الركود فهو انخفاض في مستوى النشاط الاقتصادي عموما، حيث تتقلص بشكل حاد معظم الأنشطة الاقتصادية في البلد، ما يؤثر سلبا على مستوى الناتج المحلي الإجمالي للدولة، فتتراجع الثقة الائتمانية وتنخفض إنتاجية السوق لتصبح غير كافية. هكذا ينخفض الاستثمار وتفلس العديد من الشركات، ما يؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة. ينتج عن ذلك زيادة أسعار السلع والخدمات وبالتالي انخفاض قدرة الأفراد في الحصول عليها. وحين يتفاقم ذلك، يدخل الوضع في نفق الكساد.
غني عن البيان العلاقة التفاعلية بين التضخم والركود، إذ إن أحدهما يخدم الآخر. وحالة التضخم العالية التي تجتاح العالم اليوم، تجمع مقومات الركود في الاقتصادات التي تعاني من ثغراتها المقيمة والطارئة. والحال فإن ارتفاع معدلات التضخم، دفع إلى تزايد الجهود المبذولة في سبيل محاربته، حيث اعتمد الفيدرالي الأميركي أسلوب رفع سعر فائدته، لأن رفع سعر الفائدة من شأنه أن يكبح النشاط الاقتصادي، الأمر الذي يخفض مقدار الطلب في الدورة الاقتصادية، ما يؤدي إلى فرملة التضخم.
وطالما أن أكبر الأزمات الاقتصادية وأشهرها في القرن العشرين ("بيغ كراش") بدأت كما يقول مؤرخو تلك الحقبة، مع انهيار سوق الأسهم والسندات الأميركية، فمن الطبيعي أن ينصرف الخبراء الاقتصاديون اليوم إلى مراقبة ظاهرة الركود بمجرد أن تحدث في أسواق السندات والأسهم، وتحديدا الأميركية، باعتبار أنها المؤشر الأساسي للسوق العالمية. فالمستثمر يهتم أساسا بشراء سندات الدين للفوز بالعائد المتوقع منها، والمتمثل في سعر الفائدة. وعندما يحصل الركود، يتوجه إلى السندات طويلة الأجل، إذ يأخذ بالاعتبار تباطؤ النمو الذي يتسبب به الركود، ما يعني أن السندات قصيرة الأجل ستكون عوائدها منخفضة، بعكس تلك طويلة الأجل، والتي سيحل أوان حصاد فوائدها في مرحلة متأخرة، أي بعد انكفاء مرحلة الركود. وهذا يضمن له سعر فائدة أعلى.
وعلى مستوى سعر الفائدة، فالسند في حقيقته هو أداة اقتراض، والطرف الذي يصدره إنما يستدين ممن يقرر شراء السند على سعر الفائدة المتفق عليه. ويتكون سعر الفائدة هذا من أجزاء عدة: الأول هو ما يتوقع المستثمر أن يعود عليه استثماره من ربح، والثاني هو تعويض عن مخاطر عدم الدفع من قبل المقترض، والثالث هو ما يعوض على المستثمر مقدار التضخم المتوقع وبقية المخاطر الممكنة. لذلك يكون هذا الجزء الثالث منخفضا.
وطالما من المتوقع أن يواصل سعر الفائدة ارتفاعه خلال العام الحالي في مواجهة التضخم، فمن المفترض أن تعتمد البنوك المركزية سياسة نقدية انكماشية بهدف محاربة التضخم. وهذا يتطلب رفع أسعار الفائدة. لكن في حال الاستمرار في رفع أسعار الفائدة، فهذا سيؤدي إلى المزيد من الركود، لأن كلفة الاستثمار والاستهلاك ستكون أعلى. وإذا قررت البنوك المركزية تخفيض سعر الفائدة، فقد يفقدها ذلك سياسة فعالة لمحاربة التضخم. وهنا تكمن المشكلة حيث ينبغي إقامة توازن دقيق في هذا الشأن، وهو ما لا يكون متاحا على الدوام بالنظر إلى الاضطرابات الحاصلة والمتأتية عن العديد من الأزمات التي في طليعتها الحرب في أوكرانيا. وهذا ما يجعل الغد مقيما على توقعات شاحبة وأحداث لا يمكن توقعها ولا التحكم بها.
صحيح أن الموازنة الروسية هي اليوم في وضع أفضل اعتمادا على ارتفاع إيرادات بيع النفط والغاز وسواها من المواد التي يحتاجها العالم، لكن الأسوأ يأتي في ما لو فرضت روسيا قيودا على صادراتها من القمح ومواد الطاقة والأسمدة الزراعية للرد على عقوبات الغرب.
فمن الجنون إدخال العالم في مفاضلة إكراهية بين الحرب والمجاعة.
* محمود بري كاتب وإعلامي من لبنان
** ينشر بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي
