الصين.. قوة عظمى.. تتكامل!!

27 مارس 2023
27 مارس 2023

كشفت جائحة كورونا التي ضربت العالم «بفعل فاعل» قبل أربع سنوات، وما ترتب عليها من اضطراب في سلاسل الإمداد في التجارة العالمية من ناحية، وما سبقها وصاحبها وأعقبها من حملات أمريكية وغربية محمومة ضد الصين ودورها في التجارة العالمية (نحو 35% من حجم التجارة العالمية) من ناحية ثانية، عن قوة «التنين» القابع في جنوب شرق آسيا، الذي استطاع أن يربط العالم به خلال عدة عقود وعلى نحو يصعب الاستغناء عنه أو تعويضه بالنسبة للكثير من السلع والمنتجات، وإلى الحد الذي باتت فيه القوى الدولية المؤثرة كالولايات المتحدة على سبيل المثال تنظر إلى الأمر على أنه تهديد لأمنها القومي، وهو ما فرض تعديلات مهمة بالنسبة لها وضعت الصين في مرتبة تسبق روسيا من حيث تهديدها لمصالح أمريكا ومنافستها لها على المستوى الدولي في غضون عدة سنوات.

غير أنه من المؤكد أن التنين الصيني كان ضمن الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي في إطار التنافس مع الاتحاد السوفييتي السابق على الصعيدين الدولي والإقليمي خلال مرحلة الحرب الباردة، ولم تكن مصادفة أن يقوم ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر بإقناع الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون بزيارة الصين عام 1972، وفتح صفحة جديدة مع بكين، حيث كانت حساباته مركزة على منافسات تلك المرحلة مع موسكو من ناحية، وعلى الرغبة في جذب بكين نحو واشنطن بدرجة تزيد من صعوبة اقترابها من موسكو مرة أخرى، بعد الخلافات الشديدة بين بكين وموسكو في منتصف خمسينيات القرن الماضي حول أحقية أي منهما في قيادة المعسكر الاشتراكي، وإصرار بكين على أن تكون لها رؤيتها ومكانتها الخاصة التي ينبغي احترامها في إطار المعسكر والفكر الاشتراكي بحكم مكانتها وتجربتها الخاصة من ناحية ثانية.

ومنذ ذلك الوقت حرصت واشنطن على العمل بكل السبل على منع الالتقاء والتقارب الصيني الروسي العميق، حتى لا يؤثر ذلك على مصالحها وعلى التوازن الاستراتيجي معها. وبالرغم من صعوبة الأوضاع التي واجهتها الصين بعد خلافها المبكر مع موسكو التي أوقفت كل أشكال الدعم التي كانت تقدمها لبكين في أعقاب الثورة الصينية عام 1949، فإن الصين استطاعت بإرادة ووعي وصبر مواجهة التحدي، تحدي البناء والتنمية معتمدة على قناعاتها وفلسفة كونفوشيوس وتسخير إمكاناتها الذاتية دون تفريط في مبادئها السياسية. وفي هذا الإطار، وفي ظل النشاط السياسي الصيني الذي فرض نفسه في الآونة الأخيرة على نحو ملموس، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي: أولا، أنه في حين تشكل الصين قوة كبيرة بحكم سكانها ومواردها وقدراتها التقنية والصناعية في مختلف المجالات، إلا أنها تتميز بالوضوح التام في تحديد أولوياتها الوطنية، وبالالتزام بالعمل على تنفيذها من جانب الحكومة والحزب، والنجاة من آفة التخبط والبدء من جديد مع كل حكومة جديدة تتولى الحكم أو حتى وزير جديد يأتي ليمحو ما أنجزه من سبقوه، وبينما يؤدي الحزب والقيادة الصينية دورا محوريا في الحفاظ على رؤية الدولة وأولوياتها، فإن الأولوية تحددت منذ البداية في العمل على بناء التنمية المستدامة وتحقيق أكبر نسبة ممكنة من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي سنويا، وكان السبيل هو التركيز على بناء الاقتصاد والبنية التحتية والأخذ بالسبل التي تعزز من القدرات الذاتية للدولة وللمواطن، دون الانجرار، بأي شكل، إلى ما قد يشغل أو يستنزف الموارد في أي دروب فرعية على أي نحو، وكان لذلك أثره الاقتصادي والاجتماعي على الاقتصاد والمواطن الصيني وقوة الدولة برغم أن تعداد السكان يتجاوز المليار ونصف المليار نسمة. وبالفعل بنت الصين من خلال العناية بتطوير مهارات وقدرات مواطنيها والمرونة في عمليات التخطيط المركزي نموذجها الخاص، وجمعت خبرات أكثر من مدرسة اقتصادية (دولة واحدة ونظامين)، وحققت معدلات نمو اقتصادي بما تجاوز 10% على مدى سنوات عديدة.

ومما له دلالة عميقة أن الصين برغم ضخامتها وإمكاناتها كقوة كبرى، إلا أنها دأبت على وضع نفسها ضمن مجموعة الدول النامية في الأمم المتحدة، فهي حتى الآن ضمن مجموعة الـ77 وليس ذلك تواضعا بقدر ما هو رغبة في الارتباط بدول العالم الثالث وقضاياه وبناء علاقات قوية ترتكز على الثقة مع الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهو ما عاد ويعود بالنفع عليها الآن، بعد أن أكدت مصداقيتها داخل الأمم المتحدة، وفي التعامل الفردي مع الدول الأخرى على مدى سنوات طويلة، فهي الآن موضع ثقة الأغلبية العظمى من دول العالم وبشكل حقيقي وراسخ، بغض النظر عن حملات التشويه التي تستهدفها خاصة من الغرب. وإذا كانت الصين لم تتحمَّل أي خبرات سيئة في علاقاتها مع الدول النامية، فليس لها ماض استعماري كما هو الحال بالنسبة للغرب، فإنها نجحت في إرساء ثقة متبادلة مع الدول النامية التي شعرت بصدق الصين في التعامل وتبادل المصالح معها والانحياز إلى جهود بناء السلام وحل المشكلات بالطرق السلمية في إطار المصالح المتبادلة. وبالرغم من الجهود المتواصلة من جانب واشنطن والإعلام الغربي للتشكيك في نوايا الصين وأهداف مشروعاتها الكبرى مثل مشروع «الحزام والطريق»، و«البنك الآسيوي للتنمية»، ومشروع تمويل شبكة من الموانئ حول العالم لتعزيز التجارة العالمية، وأنشطة شركة «هواوي» فإن ثقة الدول النامية في السياسة والنوايا الصينية تشكل أرضية قوية لم ينجح بايدن خلال القمة الأمريكية الإفريقية في ديسمبر الماضي في زعزعتها، وهو ما أثبتته جولة وزير الخارجية الصيني الجديد في خمس دول إفريقية في يناير الماضي. وتمثل إفريقيا الوجهة الأولى لوزير الخارجية الصيني في بداية توليه منصبه.

ثانيا، أن استراتيجية بناء القوة الصينية التي تمتد حتى عام 2049 (مائة عام على الثورة الصينية) تقوم على مبدأ عدم الدخول في حروب؛ لتركيز الجهود على البناء والتنمية، ولليقين الصيني الراسخ بالقدرة على تحقيق الأهداف الوطنية، في النهاية إن لم يكن اليوم فغدا. وصحيح أن الصين أكدت استعدادها لاستخدام كل إمكانياتها للحفاظ على وحدة الصين وللحيلولة دون استقلال تايوان والحفاظ وبحزم على مبدأ «صين واحدة»، ولكن الصحيح أيضا أن هذه قضية أرض وسيادة وهي تؤكد دوما على أن تايوان جزء من الصين الأم وستعود إليها لا محالة، ولأنها تعي محاولات جرها إلى مواجهة عسكرية إقليمية ودولية فإنها لن تسمح بذلك إلا وفق حساباتها هي، كما تظل صداماتها الحدودية المتفرقة مع الهند في التبت قابلة للتغلب عليها بوعي الطرفين وتعاونهما معا.

ثالثا، أنه في ظل الوضوح الاستراتيجي الصيني والإيمان بالسلام وبالقدرة على الإسهام في تحقيقه إقليميا ودوليا فإن بكين نجحت بهدوء وإصرار في بناء وامتلاك مقومات القوة العظمى، والمضي قدما في العمل لاكتمالها وعدم إعطاء الفرصة لواشنطن والغرب لتعويقها على أي نحو. وفي هذا الإطار تستخدم الصين قواها الناعمة وعلاقاتها الطيبة والوثيقة لدعم دورها الإقليمي والدولي، مع طمأنة محيطها الإقليمي حيال نواياها وسياساته في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. وفي الوقت الذي تدعو فيه الصين إلى بناء نظام دولي يقوم على التعددية القطبية ويتخلى عن الآحادية المهيمنة ويستند إلى تعظيم المصالح المشتركة عبر توسيع حجم التجارة العالمية، فإنها تعي أهمية وضرورة الحفاظ على حيادها النشط أو حيادها المحسوب حيال القضايا الدولية للإسهام في حلها، وليس في تعقيدها بالدخول في تحالفات رفضتها منذ وقت مبكر. ومن هنا جاء النشاط الدبلوماسي الصيني الأخير معززا لمبادئ السلام والقانون الدولي، أما التحالف الروسي الصيني فإنه يظل هاجسا أمريكيا وغربيا أكثر منه إمكانية عملية لاعتبارات تمتد من أمس إلى اليوم وغدا، حيث تكمل الصين مقوماتها كقوة عظمى قادمة.