الصين الحقيقية.. طريق الثروة والسلطة
07 سبتمبر 2025
07 سبتمبر 2025
ترجمة: نهى مصطفى -
قبل عشر سنوات فقط، رفعت بكين الستار عن واحدة من أكثر خططها جرأة: «صنع في الصين 2025». لم تكن مجرد وثيقة بيروقراطية، بل إعلان نوايا لتحويل ثاني أكبر اقتصاد في العالم إلى مصنع المستقبل. حددت الخطة عشرة قطاعات استراتيجية – من الطاقة وأشباه الموصلات إلى الأتمتة والمواد المتقدمة – لتكون ساحات المعركة الجديدة على التفوق الصناعي والتكنولوجي. الهدف كان واضحًا: فك الارتباط عن الاعتماد على الواردات والشركات الأجنبية، وإطلاق شركات صينية تنافس الكبار عالميًا. ولتحقيق ذلك، ضخّت الدولة أموالًا ضخمة، تعادل ما بين 1 و2% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، في صورة إعانات، وقروض رخيصة، وإعفاءات ضريبية. بكلمات أخرى، كانت الصين تكتب وصفة صعودها إلى قمة التكنولوجيا العالمية.
حققت الصين نجاحًا باهرًا في هذه الجهود. فهي لا تقود العالم في مجال المركبات الكهربائية وتوليد الطاقة باستخدام التكنولوجيا النظيفة فحسب، بل تهيمن أيضًا على الطائرات بدون طيار، التشغيل الآلي الصناعي، وغيرها من المنتجات الإلكترونية. أدى تمسكها بمغناطيسات المعادن النادرة إلى إبرام صفقة تجارية سريعة مع دونالد ترامب. والشركات الصينية في طريقها لإتقان السلع التكنولوجية الأكثر تطورًا التي تنتجها الولايات المتحدة وأوروبا وأجزاء أخرى من آسيا. ومع ذلك، لا يزال نموذج الصين موضع شك لدى الكثير من المتشككين. ويشيرون إلى أن التمويل السخي أدى إلى الهدر والفساد، وإلى نشوء صناعات تُصنع فيها عشرات الشركات المنافسة منتجات مماثلة وتكافح من أجل تحقيق الربح. ويجعل الانكماش الناتج عن ذلك الشركات حذرة من توظيف موظفين جدد أو رفع الأجور، مما يؤدي إلى انخفاض ثقة المستهلك وضعف النمو. أما الاقتصاد الصيني، الذي كان يبدو في يوم من الأيام على وشك تجاوز اقتصاد الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، فهو غارق في تباطؤ، وقد لا يضاهي الاقتصاد الأمريكي أبدًا من حيث الناتج الإجمالي.
هذه المشاكل ليست تافهة، ولكن من الخطأ الاعتقاد بأنها كبيرة بما يكفي لعرقلة الزخم التكنولوجي الصيني. لم تنجح السياسة الصناعية لبكين لمجرد اختيار المخططين للقطاعات المناسبة ودعمها، بل نجحت لأن الدولة شيدت البنية التحتية العميقة اللازمة لتصبح قوة تكنولوجية مرنة. أنشأت بيئة ابتكارية ترتكز على شبكات كهربائية ورقمية قوية، وأنشأت قوة عاملة هائلة تتمتع بمعرفة تصنيعية متقدمة. دعونا نسميها استراتيجية تكنولوجية شاملة. مكّن هذا النهج الصين من تطوير تقنيات جديدة وتوسيع نطاقها بوتيرة أسرع من أي دولة أخرى. من غير المرجح أن ينحرف نموذجها عن مساره بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي أو العقوبات الأمريكية. يجب على الولايات المتحدة أن تنافس الصين للحفاظ على ريادتها التكنولوجية الشاملة ودعم الصناعات اللازمة للازدهار الشامل والأمن القومي. ويجب على صانعي السياسات الأمريكيين إدراك أن أسلوبهم الحالي - ضوابط التصدير، والتعريفات الجمركية، والسياسة الصناعية العشوائية - غير فعال، ومجرد محاولة إبطاء الصين لن تنجح. يجب على واشنطن التركيز على بناء منظوماتها الصناعية القوية من خلال استثمارات طويلة الأجل ومتسقة، ليس فقط في صناعات رئيسية مختارة، بل في البنية التحتية للطاقة والمعلومات والنقل، وإلا، فستواجه مزيدًا من التراجع الصناعي وستفقد ريادتها التكنولوجية.
يُعرف مضمار نوربورجرينج في ألمانيا بـ«الجحيم الأخضر» لصعوبته واختباره لأقوى السائقين والمركبات. اعتادت شركات ألمانية وإيطالية ويابانية وكورية على تحقيق أفضل النتائج فيه، لكن في يونيو 2025 سجلت شركة شاومي الصينية، المعروفة بالهواتف الذكية وأجهزة طهي الأرز، رقمًا قياسيًا جديدًا بسيارتها الكهربائية، لتصبح ثالث أسرع سيارة على الإطلاق. هذا الإنجاز يعكس صعود الصين في مجال الطاقة النظيفة؛ إذ أنتجت ثلاثة أرباع المركبات الكهربائية عالميًا في 2024، وتشكل 40% من صادراتها، وتسيطر على سلاسل توريد الطاقة الشمسية والبطاريات، كما تنتج 60% من أجهزة التحليل الكهربائي للهيدروجين.
التفسير التقليدي لنجاح الصين التكنولوجي يركز على دعم الحكومة بالصناعات عبر الإعانات والضرائب والقروض وسرقة أو نسخ التكنولوجيا، لكن الصورة الأوسع تكمن في استثمارها بالبنية التحتية العميقة التي تدعم الابتكار والإنتاج. شملت هذه الاستثمارات أنظمة النقل؛ إذ بنت خلال 30 عامًا شبكة طرق سريعة ضعف نظيرتها الأمريكية، وأطول شبكة قطارات عالية السرعة في العالم، إضافةً إلى موانئ ضخمة، أبرزها ميناء شنغهاي الذي يتجاوز أحيانًا جميع الموانئ الأمريكية مجتمعة في حجم البضائع.
لم يكن نجاح الصين التكنولوجي ممكنًا لو اقتصر على البنية التحتية المادية، فقد أثبتت الشبكة الرقمية أهميتها الكبرى. بينما اعتُقد أن الإنترنت يقوّض الأنظمة الاستبدادية، استخدمته الصين لترسيخ سلطتها عبر مراقبة الرأي العام وتتبع الناس، مع دعم الصناعات وبناء نظام تقني متطور. أنشأت إنترنت محليًا واسع الانتشار يحجب الخارج، وروّجت مبكرًا للهواتف المحمولة، مما ساعد شركات مثل بايت دانس، علي بابا، وتينسنت على الابتكار عالميًا. كما قادت هواوي مجال معدات الجيل الخامس، وأصبح الشعب الصيني شديد الاعتماد على الهواتف الذكية، مع بقاء الحزب الشيوعي مسيطرًا.
على مدار 25 عامًا، قادت الصين العالم في بناء محطات الطاقة، مضيفةً كل عام ما يعادل كامل إمدادات الكهرباء في المملكة المتحدة. اليوم تُولّد كهرباء أكثر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين. استثمرت بكثافة في خطوط نقل الجهد الفائق وبطاريات التخزين، مما مكنها من تطوير السكك الحديدية عالية السرعة والمركبات الكهربائية. تمثل الكهرباء 30% من استهلاك الطاقة في الصين (مقابل 21% عالميًا و22% في الولايات المتحدة)، وهي أعلى نسبة بين الدول الكبرى باستثناء اليابان. هذه النسبة تنمو بسرعة6% سنويًا مقارنةً بـ 2.6% عالميًا و0.6% في الولايات المتحدة، ما يجعل الصين الأقرب لتكون أول اقتصاد يعتمد بشكل رئيسي على الكهرباء بدل الوقود الأحفوري.
لم تأتِ كهربة الصين عبر خطة مركزية محكمة، بل استجابة لمشكلات آنية مثل نقص الطاقة وتحرير السكك الحديدية من نقل الفحم، لكنها سرعان ما تحولت إلى ميزة استراتيجية: كهرباء وفيرة ورخيصة أصبحت أساس الابتكار الصناعي وركيزة لصناعات المستقبل كالذكاء الاصطناعي. وإلى جانبها، تقف قوة عاملة صناعية هائلة تضم أكثر من 70 مليون شخص، بخبرة متراكمة وسلاسل توريد معقدة منحتهم «معرفة عملية» تمكّنهم من تحسين المنتجات، خفض التكاليف، التوسع السريع في أي إنتاج جديد، بل وبناء صناعات كاملة من الهواتف إلى الطائرات المسيّرة والبطاريات. بهذا المزيج من الطاقة الرخيصة والمعرفة العملية، تملك الصين قدرة متفردة على إعادة الابتكار وخلق صناعات الغد.
أعظم أصول الصين الاقتصادية ليست الأرقام بل المعرفة العملية المتراكمة لدى قوتها العاملة. ورغم صعوبة قياسها، فهي ما يجعل بكين تتفوق. كثير من المحللين يفسرون ريادة الصين في تجميع الأجهزة الذكية بانخفاض أجور العمال، لكن الحقيقة أن سر النجاح يكمن في القدرة على التطور، والحجم، والسرعة. العامل الآخر هو الطموح الجريء لرواد الأعمال الصينيين. فالبلاد مليئة بمبتكرين لا يخشون المغامرة. مثال بارز: لي جون مؤسس شاومي، الذي في عام 2021 (وشركته تساوي آنذاك80 مليار دولار) أعلن استثمار 10 مليارات دولار في السيارات الكهربائية، واعتبره مشروعه الريادي الأخير. بفضل النظام البيئي الإلكتروني الصيني، وشركاء البطاريات، والقوى العاملة المتمرّسة، استطاع خلال بضع سنوات فقط إنتاج سيارات كهربائية عالية السرعة أثبتت جدارتها حتى على حلبات السباق الألمانية.
يواجه الصعود التكنولوجي الصيني عقبات خطيرة؛ إذ إن توجيه الموارد نحو الشركات المملوكة للدولة أثقل الاقتصاد بديون ضخمة وأضعف كفاءته، فيما أدت القيود السياسية على رواد الأعمال المبدعين إلى تراجع ثقة القطاع الخاص. في الوقت نفسه، تسببت الإعانات غير المنظمة في تفشي الفساد، خصوصًا في صناعة أشباه الموصلات التي تلقت أكثر من 100 مليار دولار منذ 2014، وانتهى الأمر بسجن شخصيات بارزة وإقالة وزراء. كما أن بقاء الشركات غير الكفؤة بفضل الدعم الحكومي أدى إلى تآكل الأرباح، وتراجع الاستثمار في البحث والتطوير، والحد من التوظيف ورفع الأجور، ما يجعل النظام الصناعي أقل ديناميكية رغم نجاحاته البارزة.
تواجه الصناعة الصينية معضلة مزدوجة: تصنيع مفرط وخدمات مقموعة. ففي الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية والهواتف الذكية، تتنافس عشرات الشركات على منتجات متشابهة وهوامش ربح ضئيلة، ما يتركها في أوضاع مالية بائسة رغم كونها قصص نجاح عالمية. في المقابل، تفرط بكين في تنظيم قطاعات الخدمات كالتكنولوجيا المالية، التعليم، والرعاية الصحية، وتواصل قمع شركات الإنترنت التي تراها مهددة للاستقرار. ونتيجة لذلك، تباطأ نمو الوظائف بشدة، رغم أن الخدمات تمثل 60% من القوى العاملة الحضرية وتشكل كامل صافي خلق الوظائف في العقد الماضي. ومع ندرة فرص العمل، ركود الأجور، وتراجع أسعار المنازل، أصبح المستهلكون أكثر حذرًا، ما زاد من تردد الشركات الخاصة في التوظيف أو رفع الأجور.
خلق النموذج الصيني الحالي حلقة مفرغة من تباطؤ النمو والانكماش، إذ يكافح الاقتصاد لتحقيق هدف 5%، فيما يدفع فائض الإنتاج الصناعي نحو التصدير، ما رفع الفائض التجاري إلى نحو تريليون دولار، أي أكثر من ضعفه خلال خمس سنوات. هذا يهدد بجمود الابتكار داخل الصين ويحفز حمائية عالمية متزايدة ضد صادراتها. لكن بكين بدأت بتقليص الدعم المفرط، ما أدى إلى اندماجات في قطاعات مثل السيارات الكهربائية (انخفض عدد الشركات من 57 إلى 49 منذ 2022، وثلثها يبيع أكثر من 10,000 سيارة شهريًا). ورغم الضغوط، تظل الدول عاجزة عن إيجاد بدائل رخيصة للمنتجات الصينية، بينما تستخدم الشركات أساليب التفاف مثل شحن البضائع عبر دول ثالثة أو بناء مصانع تجميع خارجية.
يعتبر المسؤولون الصينيون يعتبرون أن كلفة تباطؤ النمو والانكماش والتوترات التجارية تستحق مقابل هدفهم الأسمى،: الاكتفاء الذاتي والتقدم التكنولوجي، وهو ما شدّد عليه شي جين بينج عام 2020 حين أكد أن التصنيع لن يتوقف. في المقابل، لم تلتزم واشنطن الصمت، بل فعّلت إدارة ترامب أجهزة بيروقراطية لخنق وصول الصين إلى التقنيات الأساسية، خاصة أشباه الموصلات، وهو نهج واصلته إدارة بايدن وضيّقت أكثر على الرقائق المتقدمة ومعدات تصنيعها الضرورية للذكاء الاصطناعي.
كانت نتائج الضوابط الأمريكية على التكنولوجيا الصينية متباينة. في 2018، اقتربت شركتا ZTE و Fujian Jinhua من الانهيار بعد عزلها عن التكنولوجيا الأمريكية، بينما تعافت شركات أخرى بدعم قانوني وسياسي. تضررت هواوي بعقوبات 2019، لكنها بحلول 2025 استعادت إيراداتها إلى مستوى 2019، وأصبحت رائدة في معدات 5G وأشباه الموصلات. أما SMIC فقد ضاعفت إيراداتها منذ 2020 وتعلمت إنتاج رقائق 7 نانومتر رغم العقوبات. في الذكاء الاصطناعي، أنتجتDeepSeek نموذجًا متقدمًا ينافس وادي السيليكون، مستفيدة من وفرة المواهب، البيانات، والكهرباء الرخيصة. وبحلول منتصف العقد، لم تتأخر النماذج الصينية عن نظيراتها الأمريكية سوى ستة أشهر، ما جعل الشركات الصينية أكبر وأكثر استقلالًا عن الولايات المتحدة مقارنة بما كانت عليه قبل عشر سنوات.
رغم تخصيص الولايات المتحدة مئات المليارات لدعم الصناعات الاستراتيجية عبر قانون CHIPS تشيبس لتعزيز أشباه الموصلات وقانون خفض التضخم لدعم التقنيات النظيفة، جاءت النتائج ضعيفة. لم تغط خطة بايدن لتوفير الإنترنت للجميع أي شخص حتى مغادرته، ولا يوجد شبكة وطنية لمحطات شحن السيارات الكهربائية، فيما عرقلت البيروقراطية مشاريع الطاقة الشمسية والرياح رغم الإعفاءات الضريبية. مع مشروع قانون ترامب في يوليو، ستتلاشى هذه الحوافز بحلول نهاية 2026. وفي حين بقي قانون CHIPS قائمًا، سخر منه ترامب واصفًا إياه بـ«السخيف»، كما أن رسومه الجمركية أحدثت ارتباكًا واسعًا بين الشركات المصنعة التي علّقت استثماراتها. والنتيجة المباشرة: فقدان أكثر من 10,000 وظيفة تصنيع بين أبريل ويوليو عقب إعلان الرسوم.
رغم احتفالات واشنطن بالمشاريع الصناعية، يواصل القطاع الصناعي الانكماش منذ 2008، مع تأخيرات كبيرة وتسريحات حتى في الصناعات الدفاعية، وفشل في تقليل الاعتماد على المعادن الصينية. ورغم تفوقها في البرمجيات والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، يواجه الابتكار الأمريكي مستقبلًا غامضًا بسبب خفض تمويل البحث العلمي، التضييق على الجامعات، وعداء الهجرة الذي دفع الباحثين إلى الخارج، مما يضعف بيئة الابتكار للسنوات المقبلة.
يتطلب التنافس مع الصين من واشنطن أكثر من إلغاء قيود الإنفاق والهجرة؛ إذ لم تعد ضوابط التصدير كافية أمام نظام صناعي صيني صلب. المطلوب هو بناء بنية تحتية حديثة ونهج صناعي متكامل، مع تطوير شبكة كهرباء متقدمة تعتمد على النووي والغاز والمتجدّدات. كما ينبغي خفض التكاليف بإلغاء تعريفات ترامب، تبسيط القيود، تمويل البحث والتطوير، واستقطاب المواهب العالمية. وللحفاظ على موقعها، على الولايات المتحدة الالتزام بالريادة في الصناعات المستقبلية حتى مع بعض الهدر، وإلا ستواصل الصين التفوق في الطاقة، السلع الصناعية، والذكاء الاصطناعي.
آرثر كرويبر الشريك المؤسس لشركة جافيكال دراجونوميكس الاستشارية للأبحاث الاقتصادية تركز على الصين
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون».
