الصفقة المدنية الـمُـعَـطَّـلة في أمريكا

01 أكتوبر 2023
01 أكتوبر 2023

اسمحوا لي أن أُثني بشدة على كتاب «الصفقة المدنية: كيف تتمكن الديمقراطية من البقاء»، وهو كتاب جديد من تأليف الباحث المستقل بروك مانفيل وجوشيا أوبر من معهد هوفر في جامعة ستانفورد. في حين يميز هذا الكتاب أسلوبه الجيد ونظرته الثاقبة، فإن استعراضه التاريخي العام يُـعَـد كنزا دفينا لكل من يريد فهم الأحداث التي مهدت السبيل إلى تجربتنا في حُـكم الذات، والتحديات التي واجهتنا على طول الطريق (الطبيعة البشرية على ما هي عليه)، والأنماط التي من المرجح أن تتكرر في المستقبل.

ولكن هنا يأتي السؤال حول ما ينبغي لنا أن نفعل الآن. الواقع أن هذا الجزء من الكتاب دفعني إلى حالة من الاكتئاب والخواء، وجعلني عاجزا عن النطق بأي كلمات بَــنّـاءة، لأنني أتفق مع الخلاصة التي توصل إليها المؤلفان بأن الديمقراطيات لا تتمكن من البقاء إلا إذا كانت مدعومة بصداقة مدنية بين أفرادها. إذا عدنا إلى الجمهورية الرومانية قبل عام 150 قبل الميلاد، سنجد أن بلوتارخس (فيلسوف ومؤرخ يوناني) لاحظ أن نقاط الخلاف، «برغم أنها ليست تافهة ولم تنشأ حول أمور تافهة، فإنها أُخـضِـعَـت للتسوية من خلال تنازلات متبادلة، حيث يذعن النبلاء بدافع الخوف من الجماهير، ويذعن الناس احتراما لمجلس الشيوخ». ليت هذا الوصف ينطبق على الولايات المتحدة اليوم. ولكن بدلا من ذلك، أصبح أحد حزبينا السياسيين الرئيسيين، أو على وجه التحديد الحزب الجمهوري، مستغرقا في جموده المؤسسي إلى الحد الذي أصبح معه الاعتراف بالحزب الآخر كصديق مدني معادلا للإفلاس الأيديولوجي.

إن النظر إلى الديمقراطيين على أنهم أي شيء غير أعداء غرباء مهلكين يعني كشف أوراق الحزب الجمهوري ــ ومن منظور عدد كبير من العاملين في الحزب، يعني التخلي عن مصدر رزقهم. أي أن هذا من غير الممكن أن يحدث، ببساطة. أرى أن بداية هذا الانحدار الديمقراطي ترجع إلى عام 1993، فعند تلك المرحلة كانت ثورة ريجان النيوليبرالية (أصولية السوق) فشلت بالفعل من منظور السياسات. في انتخابات التجديد النصفي لعام 1994، خلص نيوت جنجريتش، الذي كان آنذاك سوط الأقلية في مجلس النواب، إلى أنه ما دام الجمهوريون لا يمكنهم إدارة حملتهم على أساس نجاحات أحرزوها في مجال السياسات، فإنهم سيخوضون الانتخابات بدلا من ذلك على أساس الازدراء والخوف ــ من السود، و «النسويين النازيين»، والمثليين، والمكسيكيين، وأساتذة الجامعات والأنماط المماثلة من الأذكياء، وكل من أصاب الثراء بطريقة غير أخلاقية أو الخاطئين الذين لن يَـقْـبَـلهـم يسوع أبدا. في أمريكا المتعددة الأعراق والطوائف والثقافات في أواخر القرن العشرين، كان جنجريتش هو الذي هدم الصفقة المدنية الديمقراطية القائمة على التعامل مع الخصوم السياسيين باعتبارهم إخوانا في الوطن على أمل أن يفعلوا الشيء ذاته.

وبهذا نجح في تأمين الفوز الانتخابي لحزبه ومنصب رئيس مجلس النواب لنفسه. منذ ذلك الحين، كلما واجه الناشطون والساسة والمثقفون والمانحون الجمهوريون الاختيار بين الاستمرار على مسار جنجريتش أو العودة إلى الطريق الأخلاقية، كانت الأغلبية الساحقة تذهب إلى الاختيار الأول. أما عن فشل ثورة ريجان، فقد حدث ذلك عبر أربعة أبعاد.

أولا: لم تنجح التخفيضات الضريبية لصالح الأثرياء، والتدابير المصممة لمنع الفقراء من التنصل من واجباتهم كعمال، في إعادة نمو القطاع الخاص إلى مستويات العصر الذهبي بعد الحرب، وفقا للوعود.

ثانيا: تسببت سياسات التقشف التي استُـخـدِمَـت لتنظيف الفوضى التي خلفتها ميزانية إدارة ريجان المتضخمة في عام 1981 في الاقتطاع من عضلات القطاع العام بدلا من دهونه، الأمر الذي مهد الساحة لثلاثين عاما من الاستثمارات العامة الهزيلة في البنية الأساسية والبحث والتطوير.

ثالثا: كان تأثير ثورة ريجان على الدولار وأسعار الفائدة سببا في إطلاق العنان لعملية تفكيك مجمعات التصنيع والهندسة والإنتاج الـقَـيِّـمة في الغرب الأوسط الأمريكي، والتي كانت مدفوعة بالسوق.

ورابعا: لم تحدث إي إعادة معايرة للمجتمع الأمريكي. بل على العكس من ذلك، تسببت فجوات التفاوت المتزايدة الاتساع في الثروة والخطاب الغالب في ذلك الوقت في جعل أصحاب الثراء الفاحش أشد عداوة وشراسة، وكل الفئات غيرهم أشد حسدا واستياء ومرارة.

من ناحية أخرى، كان مهندسو ثورة ريجان ينسبون إلى أنفسهم الفضل في الخاتمة الناجحة التي انتهت إليها الحرب الباردة، حتى برغم أنهم كانوا مجرد متفرجين متعاطفين.

كان هذا هو السياق الذي شهد فوز بِـل كلينتون بالانتخابات الرئاسية في عام 1992. وعندما وصلنا نحن العاملون في الإدارة الجديدة إلى واشنطن العاصمة في أوائل عام 1993، كنا نتوقع أننا سنلتقي بجمهوريين متحمسين وراغبين في تولي ذلك النوع من إعادة النظر الذي تعهده الحزب الديمقراطي ذاته في سبعينيات القرن العشرين بعد انهيار نظام الصفقة الجديدة الذي دام منذ نهاية الحرب. عندما لم يحدث ذلك، علقنا آمالنا على فكرة مفادها أن ثماني سنوات من سياسات كلينتون-جور ــ التي وُصِـفَـت بأنها «نيوليبرالية يسارية»، أو «ذئاب الصفقة الجديدة في هيئة حملان النيوليبرالية»، أو أي مزيج آخر من القديم والجديد ــ ستكون ناجحة في فرض الأمر. لكن ذلك لم يحدث أيضا. ثم فاز جورج دبليو بوش بالانتخابات الرئاسية عام 2000 بأغلبية خمسة أصوات مقابل أربعة أصوات في المحكمة العليا، حيث لم يُـبـد القضاة المعينون من قِـبَـل الجمهوريين في الأغلبية أي تحفظ بشأن حسم الانتخابات لصالح المرشح الذي حصل على عدد أقل من الأصوات الإجمالية.

وفي عام 2009، تكررت الدورة ذاتها. فقد توقع الديمقراطيون الذين وصلوا إلى واشنطن لشغل وظائف إدارة أوباما أن يلتقوا بجمهوريين متلهفين وراغبين في تولي ذلك النوع من إعادة النظر الذي تعهده الحزب الديمقراطي في سبعينيات القرن العشرين، لكن ذلك لم يحدث.

وبرغم ذلك، لاحق أوباما أجندة يمكن وصفها على أنها أجندة جورج بوش الأب في السياسة الخارجية مقترنة بسياسة جون ماكين المناخية، وسياسة مِـت رومني في مجال الرعاية الصحية، وإصلاحات مالية متواضعة، وجولة أخرى من التقشف ــ بما في ذلك التهديد باستخدام حق النقض ضد أي زيادات في الإنفاق يقترحها الديمقراطيون في الكونجرس. ولكن كيف كانت استجابة الجمهوريين؟ بمضاعفة حِـدة نبرتهم الخطابية لإثارة الازدراء والخوف من السود، و «النسويين النازيين»، والمثليين، والمكسيكيين، وأساتذة الجامعات والأنماط المماثلة من الأذكياء، وكل من أصاب الثراء بطرق غير أخلاقية أو الخاطئين الذين لن يَـقْـبَـلهـم يسوع أبدا. أخشى أن مانفيل وأوبر كانا على حق بشأن العوامل اللازمة لتمكين الديمقراطيات من البقاء.

نحن في احتياج إلى صفقة مدنية، حيث يتعامل الجميع مع بعضهم بعضا على النحو الذي ينتهجه أغلب الديمقراطيين: كأصدقاء مدنيين. هذا يعني أنك حتى لو كنت تعتقد أن أعضاء الحزب الآخر مضللون، فسوف تظل تنظر إليهم باعتبارهم ركابا على ذات القارب (أو يسبحون في ذات المياه العامرة بحطام السفينة، حسب الأحوال).

تتلخص مشكلة أمريكا الآن في أن الجمهوريين جعلوا هذا في حكم المستحيل على أنفسهم. وتعزيز مثل هذه الحساسية من شأنه أن يقوض البيئة الفاسدة التي ظل الحزب منغمسا فيها لسنوات عديدة. تعتمد هذه البيئة على إبقاء الناس محافظهم مفتوحة وأعينهم ملتصقة بالشاشات، حيث يتلقون جرعة ثابتة من الخوف والكراهية تجاه مواطنيهم.

ومن السباقات على مستوى الولايات وصولا إلى المحكمة العليا، يوجد ببساطة على المحك قدر من الأموال أعظم من أن يسمح بتسوية نقاط الخلاف عن طريق التنازلات المتبادلة.

جيه. برادفورد ديلونج أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومؤلف كتاب «التراخي نحو المدينة الفاضلة: تاريخ اقتصادي للقرن العشرين» (الكتب الأساسية، 2022).

خدمة - بروجيكت سنديكيت