الصراعات .. المعنى الضد لـ/ السلام والاستقرار
يبدو أن النفس البشرية مفطورة على الصراعات، فمنذ نشأة الخلق أسس ابنا آدم عليه السلام أول صراع في التاريخ الإنساني، واستمر الحال منذ نقطة الإنطلاقة تلك، وإلى يومنا هذا، نعم؛ قد تركن الفطرة أيضا إلى السلام والاستقرار، وهذا أيضا مطلب إنساني لا يختلف عليه اثنان، لأن هذه الفطرة ذاتها التي تركن إلى الصراع في مواقف، وتركن إلى السلام والاستقرار في مواقف أخرى، فهي مطالبة بإعمار الكون، وتوفير سبل الحياة الكريمة للبشرية كلها بلا استثناء، وكما هو معروف فإن مجالات التنمية لا تزدهر ولا تنتعش في بيئة من الصراعات والفتن والحروب، وعدم الاستقرار، فالاستقرار محدد مهم لوجود التنمية، مع أن التنمية ذاتها هي الجالبة للصراعات بين الأمم والأقوام، وذلك لطغيان ثيمة الأطماع بين الأفراد والمجموعات على حد سواء، فهاجس الخوف من الفقر، والجوع، وعدم الاستقرار هو ما يدفع الأطراف إلى إنماء بذور الصراعات، وتأجيجها حرصا على مصالحها الكاملة دون نقصان، ولو أدى ذلك إلى إهلاك الأمم والسيطرة عليها، والتنكيل بها، وإيرادها موارد الهلاك، أو حتى إنهائها من الوجود إن استطاعات الفئات المتصارعة ذلك، فما يهم هو البقاء والاستمرار، وهذا مطمح كل ذي كبد رطبة، وإن ظل تغليب القوة في هذا البقاء، وتغليب القوة يعني أن لا حياة إلا للأقوى، ولذلك فقناعات استمرار حالات الصراعات على الرغم من خطورتها، أكبر من قناعات إلغائها من الوجود، مع أن البقاء الإنساني قائم على الاستقرار، وليس الصراع، (تناقض) غريب يعيشه هذا الإنسان الموسوم بالعقل المفكر، وبالإنسانية الرحيمة، حيث يداس كل ذلك في لحظة انتشاء مارد الصراع، وهو الناجم عن تباين في المواقف، وفي الأولويات، وفي الاهتمامات، وفي مستويات التقييمات المختلفة تجاه أمر مشترك بين طرفين، أو مجموعة أطراف، وهذا التباين قد يبدأ صغيرا، وضعيفا، وغير مؤثر بدرجة كبيرة؛ أي لا يخضع لمستوى معين من الحساسية الشعورية أو المادية – مجرد اختلافات بسيطة في وجهات النظر - وقد يتطور مع ازدياد هذه الحساسية، وشعور أحد الطرفين بالغبن، أو الانتقاص، أو الإقصاء.
تتحدد جذور الصراعات في الكثير من الصور والممارسات، ويأتي في مقدمتها: مشروعات الأطماع السياسية في الاقتصاد، وفي الثقافة، وفي الدين، وفي الجغرافيا، وفي العرقيات، وفي الاثنيات، وفي النوع "الجندرة" وينسحب ذلك على جماعات المصالح المشتركة "جماعات الضغط"، والذي يؤجج مستوى هذا الصراع أو ذاك؛ هو مستوى المصلحة القائمة بين أي طرفين، وعدم القدرة على الوصول إلى مستوى من التوافق بينهما، حيث تظل مجالات التباين مستمرة على امتداد العلاقة القائمة، ويشتد الأمر سوءا بصورة أكبر عندما يكون هناك؛ في الغالب؛ طرف ثالث يهمه كثيرا أن تبقى جذور الصراع قائمة بين أي طرفين، لأنه؛ ومن خلال متابعة الواقع؛ كثيرا؛ ما يصل أي صراع بين طرفين إلى نوع من التهدئة، وقد يتماهى إلى أن يزول نهائيا عندما لا يكون هناك طرف ثالث يعيد إشعال الفتيل أو تغذية الشعلة بزيت الاشتعال، فالطاقات الكامنة عند أي طرف في المحك تظل محدودة، ويتضاءل حضورها شيئا فشيئا كلما طالت المدة على نقاط الاختلاف، فقط تبقى حالات التدخل من هنا أو هناك هي التي تفضي دائما إلى نزاعات دائمة، واختلافات دائمة، حتى وإن كانت هذه الأطراف ليس لها مصلحة مباشرة في مداومة أي صراع بين أي طرفين.
عُول على الدين؛ كثيرا؛ في أن تكون رسالاته عربون مودة بين بني البشر على اختلاف أنساقهم الدينية، لأن الدين من رب العزة والجلال، وليس من صنع البشر، وبالتالي فقبول أحكامه، في مشروعات الحياة المختلفة؛ يفترض؛ أن تحظى باهتمام، وبتقدير، وبمودة أو تسليم مطلق، فهي من عند الله، وجميع الخلق هم خلق الله، ولكن هذا الإنسان المفطور على قرينتي الخير والشر؛ على حد سواء؛ لم يستطع أن ينحاز إلى الخير فقط، فيريح نفسه من إشكاليات الشر، ومنها هذه الصراعات الدموية المؤلمة، بل ظل رهين قناعاته المتواضعة والتي يركن إليها كلما أحس أن هناك خوفا يحيط به، أو شرا مقبلا إليه، وحتى لا يؤخذ على حين غرة – كما هو التقدير دائما – يستل سيف الصراع ليسقطه على أي بادرة من بوادر الشر، ولو كان هذا الشر غير مقصود لذاته أو موجه إليه بصورة خاصة، وكما يقال في المثل: "أتغدى به قبل أن يتعشى بي" وربما تلعب هنا بقايا الثقافة المتوارثة لتذكي البواعث النفسية في مسألة اعتناق الصراعات لبقاء أمثل في هذه الحياة، وعلى ما يبدو أن هذه إشكالية موضوعية في الثقافة الجمعية، بغض النظر عن شعبويتها، أو محدودية جغرافيتها، أو ديانتها، فالمسألة متجذرة وليس يسيرا إطلاقا الانعتاق من استحكاماتها الفطرية؛ حيث الأصل.
الصراعات تحول القناعات والمعتقدات من عقائد إلى مشروعات حقد، وانتقام، وقد تتطور المسألة؛ خاصة في الأبعاد السياسية والاقتصادية المختلفة إلى مستويات خطيرة من الاحتلال المباشر للدول، أو من تصفية مباشرة للأنفس، فحجم السلوك العدائي يعتمد على عوامل كثيرة، وكلما استطاعت المجموعة التخفيف من حجم هذا السلوك، كلما أدى ذلك إلى التقليل من الخسائر، فالصراعات مآلاتها خسائر على جميع الأطراف، مع أن واقع الحال لا ينبئ عن توجه عام للتقليل أو التخفيف أو تجفيف منابع الصراعات، فالشعوب على اختلافها وتبايناتها الموضوعية المختلفة ترى في بقاء الصراعات نوعا من الهيبة، والتحقق، والتمكن، وأن الشعوب التي لا تعتنق الصراع؛ قد ينظر إليها؛ على أنها شعوب متقهقرة، منزوية، غير قادرة على تحقيق ذاتها، وقد تعرض نفسها لإطماع القوى المتسلطة، ولذلك فهي تسعى لأن يكون لها موطئ قدم في مساحات الصراعات القائمة، حتى لا تفقد كينونتها في مجال تأثير القوى الفاعلة، مع أنه ليس من اليسير أن يزج؛ أي نظام بنفسه؛ في صراع ليس لديه مبرر قوي للدخول فيه.
سعى الإنسان نفسه؛ مؤسس هذه الصراعات المستعرة؛ إلى تجفيف مجالات الصراع ومنابعه، وذلك من خلال إنشاء منظمات دولية تحت عباءة الأمم المتحدة؛ منها: (مجلس الأمن الدولي، محكمة العدل الدولية؛ الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة) وتتفرع عنها منظمات أخرى باختصاصات مختلفة في التنمية، والاجتماع، والثقافة، متخذة في مجموعها شعارها الرئيسي: "السلامة والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة" وعلى الرغم من العمر المقدر الذي قطعته الأمم المتحدة منذ نشأتها الأولى في العام (1945م) أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى اليوم؛ حيث تتجاوز الـ (70) عاما، إلا أن ذلك لم يغير من أمر هذه الصراعات شيئا، فلا يزال لهيبها مستعرا، ولا تزال تداعياتها مؤلمة، ولا يزال الإنسان على امتداد الكرة الأرضية يتخذها وسيلة مثلى لحل قضاياه، ومشاكله، ومشاريعه التنموية، فارضا سلطته الجبارة على من هو دونه، ومواجها سطوتها بشتى الوسائل عندما تكون الدائرة عليه، أما أن يسعى إلى تجفيف منابعها، فيبدو أن الأمر بعيد المنال؛ حتى هذه اللحظة ولا تزال القافلة تسير.
تؤكد أحداث التاريخ أن هناك شعوبا محدودة تعيش صراعات أزلية "مستمرة" حيث لم تفلح المساعي الدولية لأن تنعم هذه الشعوب بالأمن والاستقرار، وذلك؛ كما قلنا؛ إن هناك أطرافا تغذي هذه الصراعات؛ حيث تنتصر لطرف دون آخر؛ لحرصها على ديمومة مصالحها في ذات المكون الجغرافي الذي يحدث فيه الصراع، ويأتي في مقدمتها في التاريخ الحديث الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر الذي ينجز اليوم أكثر من (100) عام متواصلة، منذ وعد بلفور في العام (1917م) شهد فيها القتل والتهجير، والمعاناة النفسية والمادية، والتشتت والتشرذم، ولا تزال الحالة تراوح نفسها، ومقياس زمن انتهائها مرهون بإرادة الله عز وجل، ومن فرط تقادم هذا الصراع حدثت الكثير من التداعيات التي امتحنت فيها المواقف، والقناعات، والإرادات حتى بين طرفي الصراع نفسيهما، حيث تحول هذا الصراع؛ دون غيره؛ إلى صراع وجودي يقتسم فيه الدين والتاريخ، والقيم، والأعراف الدولية، أدوارا من المسؤوليات التاريخية والإنسانية، ولعل للدين فيه نصيبا أكبر؛ حيث تبقى فلسطين مجمع الديانات، وتَأَجج الصراعات إلى حين الوصول إلى المعركة الفاصلة، كما نبأ الله بها في كتابه الكريم.
• أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
