الصحفيون وأحلام عودة الماضي
ربما كان من حسن الطالع أن أشارك للمرة الأولى في الملتقيات التي تنظمها جمعية الصحفيين العمانية لأعضائها خارج العاصمة مسقط. ملتقى الصحفيين بظفار الرابع الذي انطلق أمس الأول ويمتد حتى غد، أتاح لي الفرصة أن ألتقي وأتحدث مع عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين الذين لم أقابل بعضهم منذ سنوات، وهذه إحدى حسنات المشاركة في مثل هذه الملتقيات التي تجمع الصحفيين أو بالأصح من بقي قابضا على جمر الصحافة منهم، للحديث عن همومهم وتطلعاتهم وأحلامهم.
القاسم المشترك الذي طغى على الحوارات الثنائية والجماعية كان الترحم على أيام الصحافة الورقية قبل أن تخضع لسلطة الشبكة وسباق الرقمنة الذي لا يرحم والذي أكل أخضر ويابس الصحافة أو كاد. الرأي السائد بين الجميع هو أن عودة الماضي الجميل للصحافة أصبح مستحيلا، ويصدق عليه كلمات الشاعر العبقري مرسي جميل عزيز في الأغنية الخالدة لأم كلثوم «فات الميعاد» التي يقول فيها: «وعايزنا نرجع زي زمان.. قل الزمان ارجع يا زمان». الزمان بالطبع لا يرجع والتاريخ لا يعيد نفسه، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالتطور التكنولوجي، فالجديد يكتسح القديم وتقنية اليوم تطرد تقنية الأمس من السوق، ولذلك فإن الصحافة الورقية التي كانت ملء السمع والبصر لن تحيا من جديد، خاصة مع تراجع ثقافة الورق وحلول ثقافة الشاشات التفاعلية محلها.
يحلم الصحفيون من جيل الرواد الذين قضوا فترات طويلة من أعمارهم يعملون في الصحافة الورقية بأن تبقى هذه الصحف لأطول فترة ممكنة، رغم أن غالبيتهم توقفوا بالفعل عن شرائها وقراءتها واستبدلوها بنسخ «البي دي أف» والمواقع الإلكترونية والملخصات السريعة على منصات التواصل الاجتماعي. في المقابل يحلم شباب الصحفيين بأن تبقي مهنة الصحافة، حتى وإن اختفت الصحف الورقية، المهم أن تستمر فرص العمل في جمع الأخبار وصناعة المحتوى ونشره على المنصات الرقمية.
شخصيا فإنني بصفتي أستاذا للصحافة وكاتب صحفي أميل أكثر إلى أحلام الشباب من الصحفيين الذين يدركون صعوبة العثور على فرص عمل، حتى وإن كانت في صحف ومواقع إلكترونية لا يسمع عنها الكثير من الناس، وصعوبة الحصول على عائد مجز إن نجحوا في العثور على هذه الفرص.
سؤال المصير، الذي يجب أن يتكاتف الجميع للبحث عن أجابة عنه، يمكن الآن أن يتجاوز حدود القلق على الصحف الورقية، ليركز على المهنة ذاتها. ويمكن طرح السؤال بالصيغة التالية: ما الذي نحتاجه لتبقي مهنة الصحافة التي لا يمكن للبشرية أن تستغني عنها.
منذ نزول البشر إلى الأرض وهم في حاجة مستمرة لمن ينوب عنهم في جمع الأخبار ورواية الأحداث ونقلها إليهم. وكان من يقومون بهذا العمل يؤدون وظائف مهمة في نقل التجارب الإنسانية وتوزيع المعرفة في المجتمعات وتوعية الناس وكشف الحقائق والتنبيه إلى الأخطار التي تحيط بهم، وكانوا في طليعة قادة الرأي والمرشدين والمؤثرين وهي أدوار ما زال الصحفيون يقومون بها حتى اليوم. وقد واكبت مهنة الصحافة تطور المجتمعات الإنسانية في كل العصور، ولم تجد تلك المجتمعات طوال التاريخ بديلا عن الصحفيين أيا كان المسمى الذي يحملوه من فترة إلى أخرى. وعلى هذا الأساس فإن بقاء مهنة الصحافة سوف يستمر باستمرار العمران البشري وسوف تبقي باعتبارها مزودا بالأخبار والمعلومات والآراء طالما حازت ثقة الجمهور حتى وإن غابت بعض منصاتها مثل المنصة الورقية.
كان الصحفيون الأوائل ينقشون الأخبار والصور على الصخور وجدران المعابد وينقلونها عبر المنادين في الشوارع والأسواق وأماكن التجمعات. وانتقلوا إلى استخدام جلود الحيوانات كوسيط سهل الحمل والنقل من مكان إلى آخر بعد الآف السنين، ثم طوروا الورق ليكون وسيطا أسهل حملا وأقل كلفة في النشر. وبعد اختراع الطباعة ظهرت النشرات الإخبارية وأنشأ الصحفيون دكاكين لبيع الأخبار لمن يطلبها، وعلى إثر ذلك ظهرت الصحف الورقية التي عاشت أكثر من ثلاثة قرون دون منافس حتى ظهر الراديو، ثم التلفزيون، ثم شبكة الإنترنت. وقد نجحت الصحافة وما زالت في التعايش مع كل الوسائل التي نافستها، واستفادت منها واستفادوا منها. هذه المهنة التي واجهت طغيان الصورة السينمائية والتلفزيونية وسرعة البث الإذاعي والقدرات التفاعلية للويب قادرة في تقديري، ليس فقط على استمرار صمودها، ولكن أيضا على مواجهة أية تقنيات اتصالية أحدث قد يتفتق عنها العقل البشري في المستقبل.
لا خوف إذن على مهنة الصحافة فلا تشغلوا بالكم بتراجع أو حتى اختفاء الصحف الورقية. في المستقبل القريب سوف يزيد الطلب على الصحفيين خاصة مع تراجع الثقة الشعبية في منصات التواصل الاجتماعي التي تسيطر على محتواها وتتحكم فيها شركات التقنية العملاقة، وتراجع الثقة أيضا في المحتوى الرقمي الذي تنتجه أدوات الذكاء الاصطناعي. سوف يقبل القراء الذين يبحثون عن الحقائق والذين يحتاجون إلى من يرشدهم إلى الصواب وإلى الصحفيين المحترفين الموثوق في أمانتهم وأخلاقياتهم المهنية وسوف تتسع المهنة حتى على المستوى المحلي لمئات من الصحفيين الشباب القادرين على البحث والتحري والكتابة الإنسانية الجيدة وتوظيف كل الوسائط الاتصالية والمنصات للوصول إلى الجمهور.
لا شك أن أحلام شباب الصحفيين في عودة الروح إلى الصحافة تتطلب في المقابل أن يقدموا، سواء كانوا يعملون في صحف ورقية أو إلكترونية أو يديرون حسابات إخبارية، صحافة ذات جودة عالية تقوم على تلبية حاجات الجمهور الحقيقية من الأخبار والمعلومات وليس فقط تلبية حاجات المؤسسات العامة والخاصة. لقد نجحت صحف كثيرة في العالم في البقاء في السوق بفضل قرائها الذين يتبرعون لها بمبالغ زهيدة تعينها على الاستقلال وتحدي التبعية وتقديم خدمات صحفية متميزة عبر منصاتها المختلفة. والطريق مفتوح تماما لكل تجربة صحفية جادة قادرة على جذب الجمهور وإقناعه بأهميتها له وضرورة استمرارها.
من الجميل أن يحمل ملتقى الصحفيين بصلالة هذا العام شعار «نحو صحافة مهنية تنير المستقبل»، والأجمل بالقطع هو ذلك التمثيل الشبابي الرائع للصحفيين العمانيين في الملتقي، وتلاحق أفكارهم مع جيل الرواد، والأكثر جمالا في اعتقادي أن تتبني جمعية الصحفيين مشروعا لتحويل هذا الشعار إلى خطة واضحة المعالم، لدعم المشروعات الصحفية الرقمية ودعم الصحفيين الشباب من خلال منظمات المجتمع المدني، ليحملوا راية المهنة، بعد أن قامت الدولة بدورها وحملت هذه الراية لأكثر من خمسين عاما، فهذا بالضبط ما يمكن أن ينير المستقبل.
أ. د. حسني محمد نصر أكاديمي فـي قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
