الشعور بالآخر مرآة العدالة الاجتماعية

24 ديسمبر 2023
24 ديسمبر 2023

يعيش العالم بكافة شعوبه ومختلف طوائفه مجموعة من التحديات المرتبطة بالواقع المعاش، وقدرة الإنسان اليوم على مجاراة متطلبات الحياة وعقباتها، ومن أهم هذه التحديات التي تواجه كثيرا من شعوب وحكومات العالم البطالة، كيف لا وهي المعطل طاقات الشباب الذين يمثلون الفئة الأهم والأكثر فعالية في أي وطن بأي أرض؟! لا ينبغي لهذا التحدي أن يعبر لوعي الشعوب نظريا، ولا هذه الأزمة أن تنسى أو أن نتشاغل عنها، خصوصا حينما ندرك ارتباطها بتحديات كثيرة نعيشها يوميا ونعاني آثارها.

أكتب هذه المقالة بعد قراءة وتحليل تعليقات قاسية ليست عابرة «إلى متلقيها على الأقل» على صور ومقاطع حفلات التخريج المنتشرة طوال الفترة الماضية، أختار منها الآتي على سبيل المثال لا الحصر: صورة لمنصة التخرج متضمنة خريجا سعيدا بتخرجه مع شهادته التي استغرقته ما لا يقل عن أعوام أربعة من عمره، ليأتيَ تعليقٌ ساخر: «أهم شيء وين ودّتك الشهادة؟ وظيفة محترمة وإلا بيّاع في.....» بتحديد مؤسسة تجارية معينة، وكأن الخريج بكل طاقته التي لم تخب بعد كان بحاجة لهذه الرصاصة الاجتماعية الساخرة بكل قسوة السخرية! هذا إذا وضعنا في الاعتبار أن صدمة الخريج الذي لم يكمل مدة 12 شهرا هي الأخف إن قورنت بحزن وضيق قراءة باحث عن عمل لسنوات دون جدوى.

مجتمعنا الجمعي المترابط القائم على المسؤوليات المشتركة، والعاطفة المشتركة لا يتوانى أحيانا من إلقاء «نكتة» تعبر من فم قريب أو لوحة رقمية بيد أحدهم لتصيب إنسانا في مقتل، أو أن تكون الشعرة التي قصمت ظهر شاب متماسك ما زال يبحث عن بصيص أمل وفجوة تمكين، هذا إن تجاوزنا فكرة أن ذلك الشاب « اللي يبيع» -والذي اعتبرته ألسنة الظرفاء مادة للسخرية وصورة نمطية لفشل المؤسسات في استيعاب شبابها المؤهلين فضلا عن الساعين لفرص العمل ممن اضطرتهم ظروف الحياة لترك الدراسة هو في حقيقة الأمر آية للأمل، ومثالا للسعي المخلص عن العمل والإنتاج بعيدا عن الاتكالية أو الترفع عن الفرصة مهما تسلطت عليها أعين الفضوليين وألسنة الظرفاء، ذلك الشاب الجدير بالاحترام الحريّ بالتقدير لا يستحق كل تلك القسوة المتمثلة في الظرف والسخرية.

لابد لأزمة الباحثين عن عمل أن تكون موضوعنا جميعا مهما طال بها الأجل أو تضاعفت حجما وأثرا، بل ينبغي لطول أجلها أن يكون مدعاة لجعلها أولوية تستغرق جلَّ عنايتنا وفائق اهتمامنا؛ مؤسسات ومسؤولين وكتّابا وأفرادا وصولا لانكماشها تدريجيا، وتقليص آثارها المجتمعية شيئا فشيئا، وحتى بعد ذلك لن تختفي كليا حتى مع أفضل تصوراتنا؛ إذ لا يخلو مجتمع ما من نسبة من البطالة إذا ما أدركنا أن نسب البطالة لا تشمل الباحثين عن عمل وحسب، بل تشمل غير الراغبين في العمل، والعاملين بعمل مؤقت الباحثين عن عمل دائم، ويشمل الإدراك كذلك طول أمد هذا البحث إذ إن البطالة طويلة الأمد هي البطالة التي تزيد مدة البحث عن عمل فيها عن 12 شهرا وفقا لمنظمة الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا).

لا يمكن إغفال آثار البطالة طويلة الأمد على الاقتصاد الوطني وعلى المجتمع في قيمه وخصائصه المتوارثة، ومن آثارها التي نوقشت طويلا فقدان المهارات، وانخفاض الأرباح، الضغط المالي والعزلة الاجتماعية، التأثير على العلاقات الأسرية والمجتمعية، كل ذلك يقود إلى تأثير أعمق على الاقتصاد العام متمثلا في: انخفاض إنفاق المستهلك، زيادة الإنفاق الحكومي وانخفاض إيرادات الضرائب، إضعاف التعليم والتدريب عبر طول مدة التعطيل والتغييرات الهيكلية في الاقتصاد؛ مما يقتضي ضرورة التعجيل في اتخاذ إجراءات حكومية من شأنها تطويق المشكلة أولا ثم السعي لحلها بعد ذلك.

ضمن الحلول المُعادة التي ينبغي تفعيلها بصورة تتفهم تحديات الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي أن لا يكون التدريب منفصلا عن العمل لما خبره وعرفه سوق العمل من التعطيل بعد التدريب، وفي ذلك تفعيل مباشر عملي للمهارات محل التدريب إضافة إلى توفير الوقت والجهد والتكلفة إذا ما وضعنا بعين الاعتبار التعاقدات الحكومية- الحكومية، والحكومية- الخاصة دون أرباح مادية تنهك الدولة مع حاجتها للإنفاق على حل المشكلة مقابل تحقيق المسؤولية المجتمعية والمشاركة التنموية من قبل القطاعين، خصوصا مع الدعم الحكومي لكثير من القطاعات الأهلية والخاصة.

لن تغفل هذه المقالة التأكيد على دور الإحلال بشكله الرقابي الدقيق بعيدا عن مجرد الإجراء النظري غير المطبق على أرض الواقع، خصوصا مع الوظائف الكثيرة التي يمكن الإحلال فيها إذا ما نظرنا للمؤهلات وتطابق التخصصات مع أولوية التوظيف الوطني، معتمدين في ذلك على دور النقابات العمالية، وتقرير جهاز الرقابة السنوي الذي أوضح فجوات التوظيف مع إمكانية الإحلال حتى في القطاع الحكومي الذي ما زال يعتمد في كثير منه على الوافدين في مجالات أولية كالتعليم والصحة.

لا بد من تكامل الجهود لنعكس تكاملا تنمويا وتكافلا اجتماعيا ينهضان بمجتمع قيمي تَعوَّد العملَ لا الدعة، والاستنهاض لا السخرية والتثبيط، ولا بد من وعي بحجم المشكلة إذا ما وجدناها مرتبطة بكثير من مؤشرات رؤية عمان 2040 مثل: مؤشر تنمية الشباب، ومؤشر التقدم الاجتماعي إضافة إلى مؤشر التنمية البشرية، ومع كل ذلك لا بد من التأكيد على العلاقة بين توفير العمل اللائق ونمو الاقتصاد وهو الوارد في الهدف الثامن من خطة التنمية المستدامة لعام 2030 للإسكوا الداعية «إلى تحوّلٍ جذري نحو عالم يسوده العدل ولا يُهمَل فيه أحد».

ختاما: لا بد من الإقرار بما تحقق من إنجازات مرحلية في كل من قانون العمل وصندوق الحماية الاجتماعية مما جعل سلطنة عمان محل إشادة من قبل منظمات إقليمية ودولية، وهو أمر جدير بالثناء لا محالة مما يدعونا جميعا إلى توثيق المنجز بالتركيز على منجز قادم يتعلق بحلحلة قضية الباحثين عن عمل والسعي لإيجاد سبل حلها سعيا لبلوغ الجميع عدالة الأمان الاجتماعي والتكافل المجتمعي الإنساني في هذا الوطن المعطاء.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية