الشعبوية وقضية تراجع الديمقراطية في الغرب

07 ديسمبر 2022
07 ديسمبر 2022

حظيت فكرة السيادة الشعبية في الغرب الليبرالي بقبول شعبي كبير، وبظهور الديمقراطية عنها في الغرب، كإحدى النتائج التي برزت عن هذه السيادة ومنطلقاتها الشعبية، وجاءت كردة فعل على ما فعلته الكنيسة في أوروبا الغربية من ممارسات قمعية واستبداد مغلّف بالدين من خلال الادعاء بالحق الإلهي لرجال الكنيسة، وما يضعونه من الآراء تعد حقا لا معقب له، ومن يخالفهم في مسألة من المسائل الفكرية أو الدينية، يحكم عليه إما بالإعدام، وإما باتخاذ وسائل أخرى لإثناء من يخالفها في أي مجال من المجالات، سواء المجال السياسي أو الفكري أو حتى العلمي التي تخالف ما تقوله الرؤية الكنسية، فتم إثر ذلك كما هو معروف بإقصاء الكنيسة وتدخلاتها وتحجيم دورها في الحدود التي لا تخرج عن الجانب الروحي والديني المحض، وتم بعدها ظهور العصر الجديد من خلال إرساء السيادة الشعبية بالديمقراطية وتقاليدها وفق لوائح ونظم مدنية، ووضع الدساتير التي تحدد طرق الترشيح والانتخاب والتصويت، وأصبحت الديمقراطية وسيلة مهمة للانطلاق في النهوض والتقدم. فحققت الديمقراطية النيابية في المجتمع الغربي الليبرالي نجاحا مبهرا، في تحقيق الاستقرار السياسي من خلال هذه الوسيلة الشعبية المقننة، وما تبعها من حريات عامة، سواء في حرية التعبير في وسائل الإعلام، أو قيام أحزاب سياسية، لها رؤى وأفكار ناقدة، بتقديم بعض من أعضائها للمجالس النيابية، وتشكيل الوزارات، وحققت نجاحا متفوقا على الأحزاب المنافسة الأخرى في الانتخابات، فكان لهذا التوجه ما جعل الغرب يحقق تقدما هائلا في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والتقدم العلمي والتكنولوجي بصورة مطردة.

ولا شك أن أي فكرة إنسانية للتطور والتقدم، لا بد لها من رؤية فكرية وثقافية في داخلها، تستمد منها إرثها الفكري والثقافي، كما أن فكرة الديمقراطية التي كانت مستمدة من اليونان، والتي طبقت بعد ذلك في أوروبا منذ قرنين مع التعديل والتغيير في بعض مضامينها وطرقها بما يناسب العصر الجديد، كما أنها تنطلق لا شك من الإرث الروماني المسيحي كثقافة أو استلهام بعض الرؤى الثقافية بما يلائم العصر. فالأخذ والعطاء في الأفكار والفلسفات، ظاهرة معروفة بين كل الحضارات والثقافات الإنسانية، لاقت الفكرة الجديدة بما أرسته الفلسفات الاجتماعية، لكن الإشكال الذي واجهته الديمقراطية، كان في تعدد الأفكار في تطبيقها، وما واجهته من مصاعب في انتظامها بصور دون عقبات، صحيح أن لا أحد يرفض كلمة الديمقراطية ومزاياها النسبية، ولا أي نظام سياسي أو تيار فكري، سيقول إنه يرفض الديمقراطية، لكن بعدها قد تتخذ المواقف التي تناسب التوجه السياسي في الحكم ويناقض الديمقراطية، فكل الفلسفات والنظم السياسية التي ظهرت في الغرب، تقول إنها تنتهج النهج الديمقراطي، لكن في أفعالها واقعيا قد تتخذ سياسات لا تتقارب أحيانا حتى في أبسط المفاهيم الديمقراطية فيها، فأصحاب الأفكار الاشتراكية يتحدثون عن الديمقراطية بحسب رؤيتهم الشمولية المخالفة للتعددية السياسية، وهو أن الديمقراطية والحرية هي العيش الكريم للشعب، والمطلب الأسمى للكادحين، والرأسماليون يتحدثون عن الديمقراطية، وكأنها ماركة مسجلة باسمهم، أو هي من خرجت من عباءتهم ونظرياتهم الفلسفية، منذ ما قبل عصر الأنوار، والفاشية والنازية، دخلتا الانتخابات بحجة الممارسة الديمقراطية الصحيحة، وإرساء السيادة الشعبية!.

لكن عندما تجري الممارسة تتحول المقولات إلى الأدراج، وتتغير طرق التعاطي معها مع استمرار رقع الشعارات إياها عن أجل العواطف وجذب الجماهير، بما يلائم التوجهات الإيديولوجية المصاحبة، والأمر الأهم في الديمقراطية الليبرالية، مع الهزات التي أصابتها في مراحل عديدة، أن المال والإعلام، من يسّير الديمقراطية في العالم الغربي الليبرالي في أغلبه، بل وبدأت «النيوليبرالية» ـ الابنة المدللة للرأسمالية المتوحشة ـ تطل برأسها من جديد في أوروبا مع اليمين الأوروبي بصورة متزايدة في العقود الأخيرة، ولم يعد التقرب للشعب ومحاولة الوفاء بالوعود هو المطلب الأساسي لكل حزب من الأحزاب السياسية، كما كان في بداية ظهور فكرة السيادة الشعبية في الديمقراطية التقليدية، صحيح أن الحريات العامة في الغرب الليبرالي، أفادت كثيرا في عدم تزعزع هذه النظم واضطرابها، كما ذكر العديد من الفلاسفة الغربيين أنفسهم، وتحدثوا عن تدهور الغرب، ومن هؤلاء الفيلسوف الألماني «أوزفالد اشبنغل»، فالحرية الفكرية والسياسية والنقد الذاتي الداخلي، أفادت الغرب الرأسمالي في أزمات كثيرة، وعصفت به في مواقف اقتصادية كبيرة منذ بداية القرن الماضي، بعكس النظم الشمولية في المعسكر الاشتراكي الشرقي، الذي جمّدت على الفكرة التي وضعت منذ الثورة البلشفية، دون أن تجدد المضامين وتتم المراجعة، حتى تم السقوط المدوي لهذه النظم.

وبدأت النظرة للديمقراطية من العامة والمهمشين تتغير وتتوجس من النخب السياسية ذات النفوذ في الغرب، والتي لا تملك مالا وجاها، وبدأت النظرة تتراجع باطراد وتزيد المتاعب الاجتماعية، وظهرت العيوب تبرز من هذه الديمقراطية الرتيبة، وهي انعكاسات سلبية للتطبيق المغاير للسيادة الشعبية، من خلال هذا النموذج، وهو كما يقوله د. حسن أوريد في كتابه (أفول الغرب) إن هذا: «ما يثوي وراء هذه الدرة الفريدة للغرب: الديمقراطية. هناك شيء ينخرها من داخلها. المال من دون شك... المال يتهدد القيم، ويحيلها إلى سلعة، وينخر المؤسسات». ثم بدأ في التحرك من خلال «الميديا» ووسائل التواصل الرؤية «الشعبوية» التي تناقض وتخالف مقولات الديمقراطية التي يديرها المال ويخضع لمزاج الماسكين به بالقرار السياسي، دون أن يكون الشعب هو المحرك للإرادة الشعبية، وفكرة «الشعبوية» فكرة قديمة وليست مستحدثة، وتعتبر من الأفكار التي ظهرت في اليونان، لكنها كانت فكرة دون أن تجد حاضنا فكريا مؤثرا من حيث الأتباع الكثيرين في ذلك العصر القديم، لكن الشعبوية برزت، كما تذكر بعض المراجع مع «انتكاس ديمقراطية أثينا، وما خلفته من فوضى دفعتْ بأفلاطون وتلميذه أرسطو إلى نبذها والنظر بِدُونِيّةٍ إلى «جموع الرعاع». لكن الشعبوية كفكرة اقتربت من اليسار أكثر من الأفكار اليمينية، والبعض ينعتها بـ(الديموغوجية)، وهو المصطلح الإغريقي المشتق من «ديموس» أي الشعب، و«غوجية» وتعني العمل، وهذا المصطلح كما يفهم منه هو ما يتم تحريك الشعوب من خلال الوعود غير الصادقة، والضرب على عواطف الجماهير بكلمات خادعة وعاطفية لاستغلالهم لأهداف سياسية أو لمصالح خاصة، وليس لمصلحة عامة، وليس كل الحراك الشعبي بهذه النظرة التي يقولها بعض الناقدين لفكرة الشعبوية.

والغريب واللافت أن الشعبوية في عصرنا الراهن، اقترنت بتحريك الشعوب في أزمات بعينها، سواء بسبب نتائج انتخابية مزورة، أو ظهور الفساد بصورة فجة، والبلد الغربي الذي لعبت فيه الأفكار الشعبوية دورا مؤثرا هي فرنسا، خاصة بعد عصر ما يسمى بالتنوير، وأبرز ما حدث في هذا الحراك الشعبي الشهير في عام 1968، وهي الحركة اليسارية الضخمة التي كانت لها مطالب شعبية ضد اليمين الفرنسي، وتظهر الشعبوية في بلدان أخرى خاصة أمريكا اللاتينية، عندما تكون هناك أزمة ما، وتتحرك قيادات مؤثرة في تحريك العامة لهذه المطالب الحقيقية في أغلبها، كما أن نعت الحركات الشعبوية بالديموغاجية، دون فرز وتمييز بينها، إجحاف بهذه المطالب الشعبية التي ابتعدت عن العنف، والمطالب المشروعة والحقانية، والأغرب أن اليمين الليبرالي، أو على الأصح «النيوليبرالي» أصبح يحرك جماعات شعبوية لمصالح خاصة، عندما تكون هناك مصلحة يحتاجها سياسيون، وهذه سابقة لم يفعلها اليمين تاريخيا أو فيما ندر، بل العكس فهو من ألد أعدائها، باعتبار أن هذه الحركات يتحرك فيها المهمشون والطبقات المسحوقة لمطالب ضد النخبوية، فالرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»حرّك بعضا من العامة، والمال هو المحرك لإجهاض نتائج فوز «جو بايدن» عام 2021، عندما حاولوا السيطرة على الكونجرس الأمريكي لإفشال إعلان النتائج، وفسر هذا الهجوم بالشعبوي «الديموغوجي»، بأنه لا يمثل الحراك الشعبوي لمطالب صادقة وواقعية، بل هو الحراك الباعث فيه مخالف حتى للسيادة الشعبية الذي يؤكد عليه الشعوبيون، وكون اليمين تاريخيا يعتبر من أرسى الرأسمالية المتوحشة، وما نتج عنها من نتائج كبيرة، منها ظهور الفلسفات المضادة للظلم الاقتصادي، والحركات الشعبوية تظهر كنتائج لما تفعله النخب السياسية التي هي أقرب لليمين السياسي، ولا شك أن ظاهرة بروز الحركات الشعبوية، جاءت نتيجة من نتائج ترنح الديمقراطية التي تدار بالمال والإعلام، وهذا ما حذر منه الرئيس الأمريكي الأسبق « جيمي كارتر» الذي اعتبر ما جرى من هجوم على الكونجرس «خطرا يداهم الديمقراطية»، وهي مقولة تأتي من زعيم سياسي ومثقف بارز، وهي صيحة مخلصة لفكرة الديمقراطية بعيدا عن الأنانية السياسية.