الشباب ومستقبل التعليم المهني

13 أبريل 2024
13 أبريل 2024

يُعد الشباب ثروة المستقبل التي تدفع إنتاجية الدول، وتدعم نمو الأعمال التجارية والاقتصادية بل وحتى الاجتماعية والثقافية. إنهم مكمن المعرفة القادر على تحقيق النمو المستدام لإمكانات الدولة ورؤوس الأموال، ولهذا فإن الدول تستثمر في مهارات الشباب وقدراتهم من أجل الانتقال بهم من مراحل تنموية إلى أخرى، وتفعيل الموارد الطبيعية والإمكانات التي تُسهم في التطوير والبناء.

إن الشباب عماد المجتمع ومستقبله، لذا فإن تطوير مهاراتهم وقدراتهم يأتي ضمن أولويات الدولة، وهدفها الأصيل الذي يمثِّل جوهر التنمية وأساس التطوير، ومكمن الازدهار الذي يوجِّه المجتمع نحو العمل والإبداع والابتكار في كافة القطاعات، فلكي يتحقق الازدهار المجتمعي لابد أن يكون الشباب شغوفا بالعمل والتطوير والبناء، بل لابد أن يكونوا ملهمين قادرين على تحديد مسارات بناء مستقبلهم وفق المعطيات المحلية والتطلعات الدولية، التي تنطلق منها أهداف وطنهم وطموحاته.

ولأنهم مكمن قوة المجتمع، فإن توفير التعليم والتدريب المهني سواء قبل أو أثناء العمل، يمثل أحد أشكال تطوير مهاراتهم وقدراتهم التي تسعى إليها الدولة، ويمكننا أن نجد ذلك من خلال الكثير من الشواهد والإحصائيات التي تقدمها المؤسسات المعنية بالتدريب والتأهيل، فالبرامج الوطنية والجوائز والمبادرات المختلفة تعبِّر عن ذلك الاهتمام والرعاية الوطنية للشباب بُغية تنمية مهاراتهم وتطوير استعدادهم للمستقبل، في ظل الكثير من التحديات التقنية والبيئية والاقتصادية، التي تتفاقم وتتعاظم مع مرور الوقت، وتحتاج إلى إمكانات خاصة، يستطيع من خلالها الشباب الاستعداد لتحويلها إلى فرص قادرة على فتح آفاق جديدة يمكنها أن تُساعدهم على الاستجابة بشكل إيجابي وفاعل في المجتمع.

يعد تقرير بيان مهارات الشباب 2024، الصادر عن غرفة التجارة البريطانية (BCC) أنه (إلى جانب دور الحكومة ونظام التعليم، تقدم الأعمال التجارية دورا مهما في إعداد الشباب لعالم الأعمال، لمعالجة نقص المهارات على المدى الطويل)، ولهذا فإن أصحاب الأعمال سيحتاجون إلى المزيد من الاستثمارات في مهارات الشباب، لإعداد جيل يمتلك الخبرة الفنية والمعرفية والقدرة على مواكبة التطورات المتسارعة خاصة تلك المرتبطة ببيئة الأعمال، فالإمكانات التقنية المتطوِّرة التي تطرأ على الصناعات الحديثة تحتاج إلى مهارات متخصصة مرنة ومستجيبة بفاعلية لتلك التطورات.

يركِّز التقرير على مسارات التعليم المهني والتقني، الذي يجب أن يكون موازيا للتعليم الأكاديمي؛ فالمهارات التي يحتاجها الناشئة والشباب في تلك المسارات يجب أن تكون (محايدة) -بتعبير التقرير- بمعنى أن تكون مرنة قادرة على تشكيل نفسها وفق المعطيات العامة التي يحتاجها سوق العمل الحالي والمستقبلي، والذي يتضمن إمكانات تغيير الوظائف وتعزيز المهارات وتنمية بيئة الأعمال وتهيئتها من أجل ذلك التغيير، فالمسارات المهنية والتقنية تعتمد دوما على تأسيس أجيال من المبدعين في القطاعات المهنية المختلفة وفق مقتضيات سوق العمل من ناحية، والتطورات التقنية والمعرفية المتسارعة من ناحية أخرى.

إن إيجاد مسارات تتناسب مع ما يمر به العالم من متغيرات خاصة في المجالات الصناعية القائمة على التقنيات الحديثة، لا يعتمد على إيجاد مناهج تقنية وحسب، بل أيضا تقديم آفاق واسعة من مهارات المستقبل التي تضمن إيجاد بيئة محفزِّة للابتكار، تساعد على فتح فرص جديدة في سوق العمل، وتحفِّز على المواءمة بين تنمية رأس المال البشري وتطوير سبل التمويل بما يتوافق مع الاحتياجات المجتمعية وقدرة الشباب على تطوير مهاراتهم وفق تلك المسارات.

تعتمد أنظمة التعليم المهني والتقني اليوم على مهارات المستقبل ووظائفه التي تشكِّل طموح المجتمعات المتطوِّرة، المعتمدة على إعداد قوى شبابية عاملة، متصفة بالمرونة والتفكير النقدي ومهارات حل المشكلات، إضافة إلى تلك المهارات التقنية والمعرفية التي تتناسب مع انفتاح البيانات والمعلومات، وتتواءم مع الاستعداد للتغيير والتطوير بما يتوافق مع الصناعات الحديثة، والمشاركة الفاعلة والإيجابية لتطبيق تلك المهارات وتطويرها بما يضمن إحداث تغييرات فاعلة في سوق الأعمال، وبالتالي في الصناعات والإنتاج بكافة أشكاله.

ولهذا فإن التقرير يؤكد على أهمية تمكُّن الناشئة والشباب من المهارات الأساسية بشكل عام، ومهارات المستقبل بشكل خاص في المدارس قبل انتقالهم إلى المراحل العليا في التعليم؛ ذلك لأن هذه المهارات تحتاج إلى التأسيس ليتمكَّن الشباب من ضمان تطبيقها ليس فقط في تطوير أفكارهم وقدراتهم العملية، بل أيضا ليكونوا قادرين على استخدامها في تحسين حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وتطوير إمكاناتهم للمشاركة الإيجابية في مجتمعهم لتحقيق فرص أفضل للعيش والرفاه الاجتماعي.

إن دعم أنظمة التعليم المهني والتقني، وتنمية المهارات المستقبلية للشباب يضمن إمكانات الإنتاج العملي وتطوير مفاهيم الإبداع والابتكار لسوق الأعمال في كافة القطاعات، ولعل اهتمام الدولة وفتح مجالات التعليم المهني والتقني وتطوير أنماطه وفق ما تتطلبه الأولويات الوطنية، وما تطمح إليه من أهداف مستقبلية تقوم على التنمية البشرية، قد عزَّز من قيمة مسارات هذا النوع من التعليم باعتباره مسارا موازيا للتعليم الأكاديمي قادرا على فتح فرص معرفية وتطبيقية للشباب الطامح إلى تحقيق ذاته وتطوير إمكاناته وامتلاك أفضل القدرات والمهارات التي تمكِّنه من تنمية إبداعه وتوفِّر له البيئة المحفِّزة والمساعدة على تحويل إبداعاته إلى ابتكارات داعمة لسوق الأعمال.

ولعل تعريف الإطار العام للتعليم المهني والتقني في التعليم ما بعد الأساسي (الصفان 11-12)، الصادر عن وزارة التربية والتعليم -الطبعة التجريبية 2024- للتعليم المهني والتقني يجعل من هذا النوع من التعليم مسارا موازيا للتعليم العام، فكلاهما ينتهي بعد انقضاء السنتين (11-12)، إلى التحاق الطلبة بالتعليم العالي، إلاَّ أن اللافت في هذا المسار بشكل خاص ارتباطه المعرفي والتطبيقي المباشر بمتطلبات سوق العمل المحلي وما تقدمه المعاهد التدريبية والجامعة والكليات من تخصصات ومسارات مختلفة سواء أكانت مهنية تقنية أو أكاديمية، الأمر الذي يجعله مسارا حيويا مرنا قادرا على تطوير نفسه وفق متطلبات مستقبل سوق الأعمال ومهاراته.

يحدِّد الإطار الهدف العام من هذا المسار التعليمي وهو (تنمية معارف الطلبة وتطوير مهاراتهم العملية في تخصصات مهنية وتقنية وفق ميولهم ورغباتهم)؛ إذ يركِّز على أساسين مهمين وهما المهارات من ناحية والميول والرغبات من ناحية أخرى، وهما الأساسان المعرفيان اللذان يضمنان تنمية قدرات هؤلاء الناشئة وفتح آفاق التطوير والتغيير بما يتناسب مع قدراتهم وميولهم الإبداعية واستعدادهم، وبالتالي ممارستهم وتفاعلهم الإيجابي مع تطبيقات تلك المهارات والمعارف وفق شغف يعتمد على مجموعة من التخصصات هي -كما ورد في الإطار- الهندسة وتقنية المعلومات والضيافة والسفر والسياحة، والعلوم التطبيقية، والتسويق وإدارة الأعمال، والصحة والرعاية الاجتماعية، والفنون والتصميم، والزراعة والبستنة والبناء.

تتميَّز مسارات التعليم المهني والتقني بارتباطها وشراكتها مع القطاع الخاص الذي يُعد الذراع الاقتصادي المهم الذي تعتمد عليه الدولة في تطوير مهارات الشباب وتنمية قدراتهم وتحسين مرونتهم واستعدادهم المهاري والمعرفي للتطورات والمتغيرات المختلفة، الأمر الذي يعني أن هذه المسارات يجب أن تظهر وفق متطلبات سوق الأعمال بما يتناسب مع قدرات هؤلاء الشباب والناشئة وإمكاناتهم الإبداعية، فتعليم هذه المسارات سواء أكان في التعليم المدرسي العام، أو التعليم الأكاديمي عليه أن يتم وفق تطبيقات عملية ميدانية، وأن يُستفاد من إمكانات القطاع الخاص ليس فقط للتدريب العملي بل أيضا في التدريس نفسه باعتباره بيت خبرة، إضافة إلى فتح فرص الاستثمار في رأس المال البشري المبدع الذي يمكن أن يتبناه هذا القطاع لدعم الإنتاج وتطوير صناعات المستقبل.

إن هذه المسارات تمثِّل أحد أهم مسارات التعليم والتدريب في المجتمعات الحديثة، وعلينا ألا نخشى من التحاق أبنائنا بهذه المسارات، التي تُسهم في تنمية مهاراتهم وقدراتهم وتطوُّر إبداعاتهم وميولهم، وتحفِّز مشاركتهم الفاعلة في سوق الأعمال، بل تفتح أمامهم آفاقا مستقبلية أفضل ستُسهم إذا ما تم تنميتها في تحسين مستويات عيشهم، وبالتالي تحقيق رفاههم الاجتماعي.