السياسة الخارجية العمانية.. دبلوماسية لا تحيد عن الحق

19 نوفمبر 2025
19 نوفمبر 2025

دائما ما نتحدث عن سلطنة عمان وسياستها الخارجية بوصفها عنوانًا للسلام والاستقرار في المنطقة والعالم وهو أمر يتفق عليه الجميع، ولكن الأمر الذي لا يعيه الكثيرون أن عمان هي أيضا دولة لا تحيد عن الحق والعدالة، وقد كشفت لنا الأزمات في المنطقة وفي مقدمتها الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة هذه المواقف النبيلة، حيث صدعت عمان بصوت الحق بأن المعتدي هو إسرائيل وليس الفلسطينيين وأن السلام لن يتحقق دون إنهاء الاحتلال ومنح الشعب الفلسطيني كامل حقوقه المشروعة، في وقت صمت كثير من دول العالم وتواطئت أخرى مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قتل الأطفال والنساء والشيوخ.

إن الاحترام الإقليمي والدولي الذي تحظى به سلطنة عُمان بفضل سياستها الخارجية المتزنة ومواقفها الداعمة للسلام والاستقرار العالمي، والتي أكسبتها سمعة «الوسيط الموثوق» و«صوت الحكمة» في منطقة تشتد فيها الصراعات وتتقاذفها المؤامرات والدسائس، هو نهج استراتيجي راسخ لا تحيد عنه، فمنذ قيام الدولة العُمانية الحديثة أسس السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- ركائز السياسة الخارجية العمانية المبنية على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والسعي الدائم لتقريب وجهات النظر وحلحلة النزاعات بالحوار والطرق السلمية.

وهذا النهج الدبلوماسي الراسخ هو امتداد طبيعي لإرث عُمان الطويل في التواصل الحضاري مع شعوب العالم المختلفة ووعيها السياسي في التعاطي مع الآخر، فمنذ قرون، نسج العُمانيون علاقات تجارية واسعة عبر المحيطات، فامتدت رحلاتهم إلى الهند والصين وشرق إفريقيا وأوروبا والأمريكيتين، كما عقدوا اتفاقيات سياسية وتجارية مع قوى كبرى مثل بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية، وأمريكا التي أرسل إليها السيد سعيد بن سلطان مبعوثه الخاص أحمد بن النعمان الكعبي عام 1840، ليؤسس آنذاك أول علاقات دبلوماسية عربية - أمريكية.

وأولى السلطان الراحل السياسة الخارجية اهتمامًا خاصًا، باعتبارها إحدى ركائز بناء الدولة الحديثة وترسيخا للنهج العماني في مد جسور التواصل مع الأمم والشعوب، فحرص على انضمام سلطنة عُمان إلى المنظمات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، إدراكًا منه لأهمية التضامن العربي وتعزيز التكامل الإقليمي. كما سعى إلى توطيد العلاقات الثنائية مع مختلف الدول، مرتكزًا على مبادئ الحوار والانفتاح والتعاون.

ومع اعتلاء جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - العرش، أكّد في خطابه الأول بعد التنصيب على ثوابت السياسية الخارجية العمانية، وإرث عمان التاريخي في التواصل الإيجابي مع حضارات وشعوب العالم المختلفة، وقد ترجم جلالته هذه التوجهات من خلال زيارات رسمية إلى عدد من الدول، واستقبال قادة ورؤساء حكومات في مسقط، فضلًا عن توجيهاته للسفراء العُمانيين بتفعيل دور البعثات الدبلوماسية في تعزيز التعاون ومد جسور الصداقة مع دول العالم.

وقد انعكست هذه السياسة المتوازنة والمنفتحة على الآخر، في أدوار دبلوماسية عملية جعلت من سلطنة عُمان وسيطا موثوقا في كثير من الأزمات المعقدة والشائكة، فقد كان لها دور حاسم في إنجاح المحادثات النووية الايرانية مع دول (5 + 1) والتي أفضت إلى الاتفاق النووي

الإيراني عام 2015، ورغم انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق في ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى وفرضه عقوبات صارمة على إيران، إلا أن سلطنة عمان سعت مجددا لتقريب وجهات النظر لإعادة إحياء الاتفاق من جديد، وذلك عبر مباحثات عقدت في مسقط وروما، ورغم أن المساعي والجهود العمانية أفضت إلى توافق في كثير من نقاط الخلاف بين الجانبين، إلا أن العدوان الإسرائيلي على إيران، أوقف تلك المفاوضات وأرجعها إلى المربع الأول، بل واشتركت أمريكا بنفسها في الحرب التي استمرت اثني عشر يوما، ما دفع إيران للرد بضرب قواعد عسكرية أمريكية في الخليج، ما فاقم حدة التوتر، قبل أن تسهم جهود دولية في وقفها، وقد استنكرت سلطنة عمان العدوان على الجمهورية الإسلامية وأكد مجدد أن إسرائيل هي من يفتعل الأزمات في المنطقة وأن الحلول السلمية لن تأتي أكلها إلا من خلال لجم إسرائيل أولا.

كذلك اضطلعت سلطنة عمان بدور بارز في مساعي إنهاء الأزمة اليمنية عبر رعاية جولات تفاوضية بين الأطراف المتصارعة، أفضت إلى توقيع اتفاق سلام بين الفرقاء اليمنيين، كما أسهمت في تقريب وجهات النظر التي أدت إلى إنهاء الخلاف الخليجي الخليجي.

وفي الملف الليبي، استضافت سلطنة عمان حوارات بين الفرقاء في محاولة لدفعهم نحو حلول سلمية.

أما القضية الفلسطينية فقد ظلت في صميم السياسة الخارجية العُمانية باعتبارها القضية المركزية الأولى للعرب والمسلمين بل وللضمير الإنساني، فقد أكدت سلطنة عمان في مختلف المحافل الدولية على حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، واعتبرت أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي هو السبب الجوهري في التوترات التي تعصف بالمنطقة.

ومع نشوب الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة، وما تبعها من تصعيد في لبنان وإيران واليمن، عبّرت عُمان بكل وضوح عن رفضها التام لتلك الانتهاكات الإسرائيلية، محملة المجتمع الدولي ومؤسساته مسؤولية كبح جماح الكيان الصهيوني المحتل، داعية في الوقت نفسه إلى إصلاح المؤسسات الدولية التي أظهرت عجزا تاما في ردع المجازر التي أودت بعشرات الآلاف من الأبرياء، بل كشفت عن ازدواجية معاييرها ومساواة الضحية بالجلاد، وأكدت أن اختلال ميزان التمثيل في مجلس الأمن يضعف مصداقية النظام العالمي، ويؤدي إلى تآكل الثقة في التعددية الدولية.

من هنا، رحبت عُمان بالمبادرات الرامية إلى تعزيز دور الجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يجعل الحوكمة العالمية أكثر عدالة وشفافية وفاعلية.

وتثبت السياسة الخارجية العُمانية دوما أنها ليست مجرد توجه دبلوماسي ظرفي، بل هي انعكاس لنهج حضاري متجذر في التاريخ، ونستذكر هنا خطاب جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- حين قال: «عمان ستظل كما عرفها العالم عبر تاريخها العريق والمشرف، كيانا حضاريا فاعلا ومؤثرا في نماء المنقطة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغايات سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية».

عبدالوهاب الهنائي .. محرر صحفي بجريدة « عمان »