السودان ومخاطر التدمير الذاتي !!

01 يناير 2024
01 يناير 2024

منذ أن اندلعت المواجهات المسلحة بين قوات الجيش السوداني بقيادة المشير عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة قائد الجيش، وقوات الدعم السريع بقيادة اللواء محمد حمدان دوقلو «حميدتي» في منتصف أبريل الماضي على خلفية اتهامات وخلافات شخصية متبادلة، وتطلع كل من رئيس مجلس السيادة ونائبه إلى إزاحة الآخر من السلطة في قيادة السودان والسيطرة على الدولة السودانية وفق رؤيته الخاصة حسبما يراها كل منهما، شعر الكثيرون بالحيرة والدهشة من حدوث المواجهات المسلحة بين طرفين لا تتوفر لأي منهما مقومات ومتطلبات احتياجات المواجهات المسلحة التي تنوء بها إمكانات دول أكبر خاضت وتخوض مواجهات مسلحة تسعى الآن إلى التوصل إلى نهاية مناسبة لها بشكل أو بآخر.

وبينما راح البعض يبحث عن دوافع مالية وأطماع اقتصادية وموارد معدنية متنوعة ومتوفرة بالفعل في السودان ويجري استثمار أو بالأحرى استغلال بعضها في إطار عائلي، فضلا عن مصالح سياسية ظاهرة ومستترة ذات امتدادات ظهرت ونمت أيضا في ظل حروب ومواجهات مسلحة ومصالح اقتصادية لعب فيها قائد قوات الدعم السريع دورا فرديا مؤثرا ولا يزال بحكم موقعه القبلي في السودان والدول المجاورة له وفي القوات المسلحة السودانية كذلك، ومن ثم تراكمت مشكلات وخلافات زادتها تطلعات ومحاولات استغلال لها من جانب أطراف أخرى ذات مصالح في التوسع ، والتدخل على حساب السودان

بشكل أو بآخر لأسباب تعود لتلك الأطراف في النهاية. وفي ظل الظروف والتوترات والتداخلات القائمة وخلط الأوراق زادت المطامع والتطلعات وشجعت تجربة انفصال جنوب السودان التي كان حميدتي أحد مهندسيها إلى جانب الرئيس السوداني السابق المشير عمر البشير والتلويح أو التهديد به -الانفصال- على المضي في التجربة وبالتالي ظهر اصطلاح الانفصال مرة أخرى في دارفور وغيرها من مناطق السودان خاصة في ظل ذئاب تتربص بالسودان الشقيق ويسيل لعابها أمام موارده العديدة والمتنوعة. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا، عندما بدأت المواجهات المسلحة بين حميدتي وأتباعه وبين البرهان وقوات الجيش السوداني الوطني، واختلطت الشعارات والاتهامات بين الفريقين لجذب وإقناع المواطنين السودانيين أن كلا منهما له ما يبرر موقفه من وجهة نظره، لم يقنع ذلك كثيرين لا على هذا الجانب ولا على الجانب المقابل له، ولكن الأغلب أن التدخل السريع الذي تشكل جزء من أسلحته العظمى من الأشقاء السودانيين والعرب، لم يجدوا أسبابا مقنعة تبرر الدخول في مواجهات مسلحة تدمر ليس فقط ما يملكه الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي تشكل جزءا منهما، وهي معدات محدودة وليست حديثة ولكنها تدمر كذلك، كما حدث، في البنية الأساسية الموجودة في المدن والمرافق الأساسية والخدمات التي بناها السودان بجهد وعناء ويصعب إعادة بنائها مرة أخرى بسهولة أو بسرعة في وقت تزداد فيه المشكلات والتحديات التي يعيشها السودان الشقيق في مختلف المجالات. ومن جانب آخر لم يتوقع الجميع تقريبا أو على الأقل الكثيرون أن تلك المواجهات المسلحة المتفرقة والمتنقلة وحسب هوى الوحدات المسلحة من مدينة إلى أخرى ومن حي إلى آخر وحسب ما يقرره الضباط المسؤولون وفق مقتضيات الموقف يمكن أن تستمر وتتواصل لمدة تتجاوز أسابيع قليلة وذلك رهانا على حرص السودانيين وحبهم لبلدهم وخوفهم عليه من ناحية وعلى الثقة في أن القوى المجاورة للسودان والحريصة عليه لن تتركه وحده ولن تتأخر عن التدخل لمحاولة وقف القتال والعمل على التوصل إلى حلول مرضية وبالتوافق بين البرهان وحميدتي لمصلحة حاضر ومستقبل السودان واستقراره والعمل على الحد من خسائره من ناحية ثانية. وبالرغم من أن بعضا من هذه المحاولات الداخلية والتعاطف الخارجي قد حدث بالفعل خاصة في بداية المواجهات المسلحة خاصة في بداية العمليات ـ إلا أن فشل الجهود في التقريب بين الأطراف المعنية بما في ذلك جهود عربية وإفريقية وأخرى شاركت فيها الولايات المتحدة (الجولات التي عقدت في السعودية)، أدت إلى ميل الطرفين السودانيين إلى تشديد مواقفهما ومطالبهما حيال الآخر من ناحية، حيث حاول كل طرف نفي الآخر وتحميله مسؤولية اندلاع المواجهات أمام الشعب السوداني من ناحية ـ كما أدى إلى تشكيك الوسطاء الأجانب في رغبة حميدتي والبرهان في التوصل إلى حل للمشكلة ووقف القتال من جانب آخر وهو ما زاد من تعقيد المشكلة وأدى إلى زيادة كبيرة في أعداد القتلى والمصابين وإلى زيادة عدد اللاجئين داخل السودان وإلى الدول المجاورة على نحو زاد من المشكلات للسودان وجيرانه بشكل كبير. كما أدى إلى التأثير كذلك على نمط استثمار السودانيين العقاري في داخل السودان وخارجه نظرا لتوقع الكثيرين ممن يملك منهم قدرة مالية استمرار المواجهات وعدم انتهائها قريبا. وبالتالي السعي إلى بناء حياة جديدة في مدن أو محافظات سودانية أخرى أكثر استقرارا بعد أن فرضت الحرب الهجرة على ملايين السودانيين داخل السودان وخارجه واكتظت مخيمات اللاجئين في مناطق الحدود المشتركة مع 8 دول لها حدود مع السودان، وقد أدى تفاقم الموقف وتراكم المشكلات إلى أن يقوم تيدروس أدهانوم جيبريسيوس مدير عام منظمة الصحة العالمية بالدعوة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة الأزمات الصحية والإنسانية المتفاقمة في السودان مطالبا المجتمع الدولي بزيادة المساعدات المالية، وقال إن «هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف تصعيد النزاع في السودان، حيث تتفاقم الأزمات الإنسانية والصحية مع نزوح مئات آلاف الأشخاص معظمهم من النساء والأطفال» دون توقف.

ثانيا، إنه في الوقت الذي حاول فيه كل طرف إلقاء مسؤولية المواجهات المسلحة على عاتق الطرف الآخر، فإن القتال اتخذ نمطا ميليشياويا، وذلك بحكم تكون قوات الدعم السريع من عناصر تعود إلى أصول ميليشياوية سابقة وإلى مرتزقة من أصول ترتبط بعلاقات وثيقة مع حميدتي وتعتمد في تمويلها على مصادر اعتمدت في بعض الفترات على السطو المسلح على بعض السفارات وعلى نهب المساعدات الدولية التي تأتي لمساعدة النازحين والنساء والأطفال، وهو ما أساء كثيرا لقوات الدعم السريع في نظر السودانيين وغيرهم. وفي هذا الإطار جرت مشكلات كثيرة زادت من الخلافات بين البرهان وحميدتي بما في ذلك حل قوات الدعم السريع وتعيين نائب للبرهان ليحل محل حميدتي، ووقف تمويل البنك المركزي السوداني لقوات الدعم السريع، ولكن تلك الإجراءات العقابية في حق حميدتي لم تؤثر فيه بحكم سيطرته على جزء كبير من موارد الذهب في السودان وعلى التجارة والاستفادة منها وكذلك الاستفادة من علاقاته مع قادة مدن عربية وأخرى مجاورة للسودان لخدمة المصالح المشتركة بينهما، والجزء الكبير منها لا يخدم مصالح الشعب السوداني الذي تضر الحرب بمصالحه اليوم وفي المستقبل والذي يدفع ثمنا فادحا لاستمرار الحرب وعلى نحو يشعر معه كثيرون باليأس من إمكان حل الأزمة في الظروف الراهنة، خاصة أن البرهان وحميدتي ما زالا قادرين على الالتقاء والتفاوض معا لحل الأزمة بشكل أو بآخر على الأقل من خلال جهات الوساطة العربية والإفريقية التي يرتضيها الطرفان.

ثالثا، إذا كانت تجارة الذهب التي يسيطر عليها حميدتي وأتباعه تفتح المجال أمام علاقات مع أطراف إقليمية ذات مصالح في السودان، فإنها فتحت أيضا جسورا لمصالح جعلت من السهل أمام قوات الدعم السريع النفاذ إلى أسواق السلاح والحصول منها على احتياجاتها من السلاح بشكل مباشر أو غير مباشر وهو ما يجعل عجلة الحرب مستمرة في الدوران على حساب تدمير السودان وموارده والدفع بالكثير من السودانيين إلى الهجرة إلى داخل السودان وخارجه.

وإذا كانت القوى المدنية السودانية قد حاولت القيام بدور إيجابي لإنقاذ السودان في بداية المواجهات، فإن قدرتها على الاستمرار في ذلك قد انخفضت إلى حد كبير سواء بسبب سطوة السلاح ووجود خلافات وانقسامات بين القوى المدنية ومحاولات تدخل خارجية تؤثر بالسلب على السودان وعلى استمراره موحدا وقادرا على الحفاظ على تماسكه، فهل مصادفة أن يكتمل طوق النار حول مصر في هذه الظروف؟ ومن يحرك ذلك كله في النهاية؟ ولكن لأن مصر بمثابة عمود الخيمة، فستظل المنطقة تلتف حولها فهذا هو قدر البقاء للمنطقة في الحاضر والمستقبل.