السلفية المعاصرة: محاولة للفهم والاستيضاح «2»

20 أبريل 2022
20 أبريل 2022

ذكرنا في الأسبوع المنصرم فكرة بروز مصطلح السلفية المعاصر وتأثيرات الأفكار السابقة عليه، وكيف يبرز هذا المفهوم بين الحين والآخر؟ دون أن يكون هناك مقاربة دقيقة لهذه الرؤى من حيث إدخال آراء أخرى على هذا المفهوم؟ والإشكالية أن البعض في العصور المتأخرة كعصرنا الراهن، فسّر هذا المسمى تفسيرا لم يكن شائعا آنذاك، وكأنه مدرسة فقهية مثلها مثل المدارس الأخرى التي تأسست في القرون الأولى لظهور الإسلام، وهذا ليس صحيحا من هذه المنطلقات التي ربما فهمها بطريقة لا تقترب من أسس منهجها كما فهمها الأوائل، كما أن السلفية لا تنسب لعالم، أو مذهب، وإنما تنسب للمنهج الذي سار عليه سلف الأمة في عصور الإسلام الأولى من الصحابة والتابعين، لذلك كما يرى د. محمد السيد الجليند: إن السلف ليسوا فرقة كلامية، ولا مذهبا فكرياً كما يحاول البعض أن يصورهم في كتاباته، فيجعلهم قسيماً للمعتزلة ،أو الأشاعرة، والمرجئة.. وهذا خطأ تاريخي ومنهجي معاً، ينبغي التنبيه إليه والحذر منه، بل يجب التحذير منه أيضاً(..)، أما السلفية فيراد به المعتصمون بالمنهج الذي سار عليه سلف الأمة من أهل القرون الأولى في مسائل الاعتقاد وأصوله، كما هي في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الصحيح، فآمنوا بها ودعوا إليها، كما وردت بدون تأويل أو تعطيل ولا تحريف لها عن ظاهرها.

وسار في هذا المنحى تجاه مفهوم السلفية في العصور السابقة، دون إضافات عليه أو تحوير لمفهومه د. محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي)، حيث يرى أن السلفية أو السلف الصالح، يستمدون من منهجية القرون الثلاثة الأولى، فيما ساروا عليه من حيث القواعد والأسس التي جاءت من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لكنه لا يعتقد أن التمذهب بالسلفية ، يعني أن للسلفية مذهباً خاصاً بهم ، يعبر عن شخصيتهم، وكينونتهم الجماعية. كما أن هؤلاء الذين دخلوا في هذا المذهب، هم من دون سائر المسلمين، الذين يمثلون حقيقة الإسلام وينهضون يحقه. فالإسلام يغدو، من خلال هذا التصور والفهم، هو التابع لهذا المذهب وأصحابه، يسير وراءهم أنى ساروا، ويتبنى من المبادئ والأحكام والآداب ما يثبتونه ويرونه، ويحارب من ذلك كله ما يحاربونه!.

ولا شك أن مفهوم السلفية قد ازداد توسعاً بصورة كبيرة، وأصبح البعض من الجماعات أو التيارات ممن يتسمى بالسلفية يقوم بتأويله وتحوير ما يريد توجيهه، وفق ما يتناسب وفق تلك التيارات السياسية، ويعمل على قلب المفاهيم حتى يجعل هذا الفهم مرادفاً لمراده ورؤيته الفكرية، التي يحاول البعض أن يجعل السلفية تنطبق عليه، وليس على غيره من المدارس الفقهية والأصولية الإسلامية الأخرى.

ومن الباحثين العرب الذين اهتموا بمفهوم السلفية وحدودها وتحولاتها الأكاديمي الفلسطيني د. فهمي جدعان الذي كتب دراسة موسعة عن السلفية، ففي كتابه (الماضي في الحاضر: دراسات في تشكّلات ومسالك التجربة الفكرية العربية)، طرح د. جدعان الرؤية التي جعلت هذا المصطلح يظهر كمرجعية لمدارس إسلامية، وعنونها باسم «معنى السلفية» ويصور هذا الظهور بقوله:«لا شك أن كلمة عبد الله بن مسعود :«اتبعوا ولا تبتدعوا»، يمكن أن تستجمع ، ابتداءّ ، كامل الموقف السلفي ، وتقدم مرة واحدة مفتاحه الذهبي. وإن شئنا مزيداً من التدقيق والإبانة من أجل إدراك الركائز الأساسية التي يستند إليها هذا الموقف، علينا أن نذهب إلى مجمل الأعمال الكلاسيكية التي تمثل الإطار المرجعي والقاعدة التاريخية الصلبة له».

ويضيف د. فهمي جدعان في سياق تعريف ظهور المصطلح وأسباب ذلك ودواعيه، وما برز عنه من تحولات تالية للكثير من التيارات، قد تكون خرجت عن مفهوم ما كان عليه جيل المدارس الفقهية، فيقول: لنزعة السلف ومذهبهم أو تيارهم في مطلع القرن الثالث الهجري مع (أصحاب الحديث). وقد كان الخطر البادي آنذاك خطرًا حضاريًا أو ثقافيًا، حيث اعتقد (أصحاب الحديث) أو النقل أن تيار الرأي والعقل (اليوناني) يمكن أن يأتي على الأسس والأصول المنهجية التي يقوم عليها الإسلام نفسه إتيانًا يمكن أن ينذر بضياع الأمة نفسها.

وهذه الأمر بدأ مع الأزمة التي حصلت في عصر الخليفة العباسي المأمون الذي أراد أن يفرض مذهب المعتزلة على جمهور المدارس الفقهية في بغداد، فرض العلماء ،ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم العلماء الآخرون، والذين تسموا بأهل الحديث، وقد أشار الأكاديمي المغربي د. محمد عابد الجابري، في سرد قصة المحنة التي تعرض لها ابن حنبل ، في كتابه المعروف:( المثقفون في الحضارة العربية:محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد)، ويقول د. الجابري عن هذه المحنة، في كتابه: (المثقفون في الحضارة)، إن التفسير العلمي الموضوعي لهذه ((المحنة)) ضروري أيضاً لنا نحن، لحاضرنا ومستقبلنا، نظراً لأن آثار هذه ((المحنة التاريخية)) وردود الفعل التي أثارتها ما زالت تفعل فعلها في واقعنا الراهن من جهة، ولأن الظروف والملابسات التي جرت فيها هذه ((المحنة)) لم يتم بعد تجاوزها بصورة نهائية، بل هناك في واقعنا العربي والإسلامي الراهن ما يمكن اعتباره امتداداً لها أو إعادة إنتاج لها بأسماء ومعطيات ((جديدة))».

وأرى أن المعتزلة أخطؤوا في الموافقة على فرض مذهبهم بالقوة، ولذلك فإن هذا المذهب اختفى من الساحة الفكرية في ذلك الوقت، وبقي مجرد تاريخ للعظة والعبرة ، وقد ناقشت في كتابي (أكاديميون ومفكرون عرفتهم) القصة، وما قاله د. فهمي جدعان، ولذلك يرى البعض أن فكرة السلف الصالح، أو السلفية، بدأت من قضية المحنة التي كانت مسألة تتصل بالحرية في الاختيار وهذا من أخطاء المأمون، وكذلك أهل الاعتزال، الذين يرفضون، واستفاد أهل الحديث من هذه الأزمة وكسبوا الكثير من الأتباع بعد هذه الإشكالية الفكرية في عام 1997، أقام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، في إطار مهرجان القرين الثقافي الرابع ندوة موسعة بمناسبة مرور ربع قرن على صدور مجلة عالم الفكر حملت عنوان (الفكر العربي المعاصر: تقييم واستشراف) ومن ضمن ما قدمت أوراق بحثية عن الاتجاه السلفي، شارك فيه بعض الباحثين،ومن هؤلاء د.حيدر إبراهيم علي ورقة عن الاتجاه السلفي، فيقول: إن ظهور السلفية أو العودة إلى الماضي مرتبط بحقيقة أن المسلمين يواجهون أزمات دورية متكررة. وهذا تطور عادي ناتج عن التحولات التي يمر بها أي مجتمع بشري يعيش في التاريخ أو الزمن بتقلباته، أي سنن الكون. وتظهر حركات هدفها تمكين الإسلام من مواجهة الأزمات والتحديات، وترى هذه الحركات أن الأزمة أصلًا سببها البعد عن أصول ومنابع الدين الأولى، لذلك يكون الحل بتقريب المسلمين إلى تلك المصادر. ورغم أي اختلافات يلتقون في الدعوة إلى تحكيم القرآن والسنة، كما فعل أسلافنا ونجحوا في المواجهة. وهذه كانت منعطفاً كبيراً في بروز قضية السلف الصالح، أو ظهور مصطلح السلفية، ولهذا فإن الكتابات لم تتوقف عن ظاهرة مصطلح السلفية، لأن المنحى توسع كثيراً من خلال بروز اتجاهات تتحدث أنها تسير على المنهج السلفي، مع تجاوز الكثير من المفاهيم التي ارتبطت بمصطلح السفلية ومنهجه، ولكن رؤية السلف الصالح، لها هدف محدد، كما يقول د/ محمد فتحي عثمان، وهو أن هدفها: أن تكون الدعوة السلفية في كل عصر هي أمل الشفاء من الأسقام والأوهام، والسبيل لتحطيم القيود والأغلال، والنهوض والمسير قدمًا نحو الأمام: الرجوع إلى الكتاب والسنة والاهتداء بسلف الأمة هو ضمان المسير إلى مستقبل أفضل.. وهكذا تكون السلفية دعوة معاصرة دائمًا ـ فهي ـ دعوة الاقتداء بالسلف دعوة متجددة دومًا، وهي على ذلك دعوة ملائمة لعصرنا ولكل عصر، لأنها تربط المؤمنين بالينابيع الصافية وتسقط عنهم رواسب القرون من ابتداع البشر»، ويضيف بأنها متجددة بسبب التحرير الفكري والنفسي والفردي والجماعي الذي تحققه للبشر. لكن مع ذلك فإن مصطلح السلفية كان رائجا في المغرب العربي، وله آراء ونظرة لها نظرتها السلفية التجديدية.. وهذه سيكون لها حديث آخر.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية: مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين».