السلفية المعاصرة.. محاولة للفهم والاستيضاح

13 أبريل 2022
13 أبريل 2022

في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، وبداية هذا القرن، خاصة ما بعد الربيع العربي ومؤثراته، برز مصطلح السلفية بصورة تتزايد بتياراته المتعددة التوجهات السياسية والفكرية والدينية، وبينهما من يتمثل التقليد والاتباع -كما سنبين- ومنها من اتخذ العنف السياسي للتغيير، مع الاعتقاد بأنها تتبع منهج السلف الصالح بحسب قولهم، وبدأت تظهر في السنوات الأخيرة العديد من المؤلفات والدراسات، وبدأ تزايد الاهتمام بظاهرة مفهوم ومعنى السلفية المعاصرة، الذي برز على سطح الواقع العربي والإسلامي، إلى جانب الندوات والمؤتمرات، التي تتحدث عن السلفية وتعددها وتوجهاتها السياسية والفكرية، خاصة بعدما ظهرت العديد من الحركات السياسية والجهادية بممارسات للعنف، وفي القرن الماضي كان الأبرز في مناشط السلفيات الدينية، كجماعات من المسميات: السلفية التراثية، والسلفية التقليدية، والسلفية العلمية، سواء في بعض البلاد العربية أو في بعض البلاد الإسلامية، وبالأخص في شبه القارة الهندية، وكانت تنطلق من مفاهيم ورؤى محددة، مع تعدد طرق النشاطات والدعوات والاهتمامات، وكلها تتحدث أنها تريد السير على نهج السلف الصالح.

والحقيقة أن هذا المفهوم، بعيدًا عن التوسع في اللغات والمصطلحات والمسميات، تعني الرجوع إلى ماضي الأمة الإسلامي، أو العصر الذهبي في قيم الإسلام، الذي سار عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين وتابع التابعين، والأئمة الكبار المؤسسين للمدارس الفقهية الذين حملوا الرسالة الإسلامية، وكانوا المرجع في استقامتهم وورعهم، ولذلك اعتبروا القدوة في الاتباع، فيما ساروا عليه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، في اجتهاداتهم ورؤيتهم، تجاه ما يجب التمسك به بعد القرآن الكريم والسنة النبوية، وتعتبر القرون الثلاثة الأولى هي من تمثل رؤية السلف وفق المقولة الشهيرة (الاتباع لا الابتداع)، والتمسك كما جاء في الحديث النبوي: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه وتسبق يمينه شهادته).

برز الحديث عن التمسك بسلف الأمة، بعد المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل في القرن الثاني الهجري، بعدما أمر الخليفة العباسي المأمون، بفرض مذهب المعتزلة على بعض الفرق الإسلامية، خاصة مذهب أهل الحديث الذين رفضوا ذلك، واعتبروا أن هذا المذهب المعتزلي مخالف لما سار عليه سلف الأمة المستمد من الكتاب والسنة، من حيث تقديم الرؤية العقلية على أقوال السلف ومنهجهم في الاتباع والاجتهاد، خاصة مع انتشار الفكر اليوناني وقبول بعض رؤيته تجاه بعض القيم التي تخالف دين الإسلام من مفاهيم بعيدة عن منهج السلف، وهذه كانت سببا في بروز ظاهرة أهل الحديث التي كانت أقرب إلى المدرسة الفقهية الحنبلية، لكنها تتوافق مع المدارس الإسلامية الأخرى خاصة الرؤية المعتزلة، ثم ظهرت بعد عدة قرون دعوات أخرى تتحدث عن سلف الأمة، ومنها دعوة الشيخ الحنبلي محمد عبد الوهاب، انتهج محاربة البدع والشركيات، والحديث عن تنقية الدين مما لحق به من الأفكار ونظرات ليست من صميم الإسلام، ومع انحسار وضعف الخلافة العثمانية، واجتياح الغرب الاستعماري للبلاد العربية والإسلامية، ظهرت الحركة الإصلاحية المتمثلة بجمال الدين والأفغاني والشيخ محمد عبده، ثم تلميذه صاحب مجلة (المنار) محمد رشيد رضا، لمواجهة الخطر الاستعماري الذي يريد استئصال فكر الأمة وهويّتها في القرن التاسع عشر في البلاد العربية، وظهور بوادر الاختراق الفكري والثقافي، فبرزت الدعوة إلى التمسك بالدين، وما سار عليه سلف الأمة، لتكون الحصن المنيع لمواجهة تيارات التغريب، وظهرت في المغرب العربي (الحركة السلفية الوطنية)، وهي حركة تجديدية، ولعبت دورًا مهمًا في مواجهة الفرانكفونية التي أرادت مسح الهوية واللغة العربية، وإحلال الثقافة الغربية بدلها، وقام بهذا علماء مثل: الحجوي، والعربي، وابن باديس، والبشير الإبراهيمي، ثم مالك بن نبي، وعلال الفاسي، ومن المهم الإشارة إلى أن الدعوة السلفية المغربية لها بعض الرؤى الاجتهادية والنظرة الفكرية تختلف عن السلفية التي تنطلق منها بعض السلفيات المعاصرة وسنناقش هذا الجانب بصورة أوسع.

بعد هزيمة 1967 وسقوط العديد من أراضي الدول العربية بيد اليهود، ومنها أراض عربية فلسطينية، خاصة مدينة القدس ثالث الحرمين، ظهر الحديث والنقاش مرة أخرى عن ابتعادنا عن نهج السلف، ولماذا جرى هذا للأمة؟ وأوعز هؤلاء إلى أن السبب هو الابتعاد عن منهج السلف، وهو الذي أدى إلى هذه الهزائم والتراجعات، والاعتقاد أن ما جرى هو البعد عن قيم الإسلام وغيابه في هذا الصراع الدائر، وبدأ انتشار الفكر الإسلامي السياسي، ومنه أيضًا الفكر السلفي بصورة لافتة في السبعينات والثمانينات، لكن برؤى أخرى مختلفة عند بعض الحركات الجديدة، التي ابتعدت عن السلفيات التقليدية السابقة، إذ بدأ الحس السياسي يبرز مع بعض هذه الحركات، ومنها حركة الضابط العسكري الفلسطيني صالح سّرية التي جرت في مصر عام 1974، المعروف بحادث الكلية العسكرية وسيكون لنا نقاش عن الحركات السلفية المتشددة، والتي تدعي السير على نهج السلف والتوسل بمنهج الإسلام، وأن في حضوره تحقق النصر مع رعيله الأول، وانتشر الإسلام وتحققت انتصاراته.

ولا شك أن هناك انتقادات لبعض الحركات السلفية في بعض مناهجها الفكرية من خلال بعض الكتابات التي ناقشتها، وتتعلق بثباتهم على النصوص دون الاجتهادية، والجمود عليها، وعدم الأخذ بالتجديد وفكر المقاصد، دون النظر إلى التحولات والتغيرات الفكرية في العصور التي تتطلب تجديد الرؤى ضمن المقاصد التشريعية، فيما لا نص فيه، وهو ما يجعل الحاجة لتجدد الآراء والأفكار مع المستجدات التي لا تخالف قطعيات الدين، ويرد بعضا ممن يقدر منهج السلف عند مناقشته عن هذه الانتقادات، ومن هؤلاء الكاتب الأردني أسامة شحادة، حيث يرى أن (السلفية لا تريد إرجاع الناس للحياة بأسلوب عصور سابقة، فليس من السلفية مثلا رفض الكهرباء والهاتف. السلفية تريد أن نحيا عصرنا بمخترعاته تحت منظومة قيم مطلقة كالتوحيد والعدل والشورى).

وهكذا تبقى النظرات الجزئية للسلفية تشتت ذهن القراء، وتراكم صورة سلبية مغلوطة، بسبب عدم فهم شمولية السلفية للإصلاح بحسب الزمان والمكان والواقع، انطلاقا من الوحي الإلهي على منهج السلف الصالح في تلقي وفهم هذا الوحي. وهذا يفسر تعدد اهتمامات السلفيين، التي يظنها البعض سلفيات متعددة، وهي سلفية واحدة، لكن كل منها يواجه تحديا مختلفا، فتختلف برامجها في العمل، وإن كانت متفقة في الأصول الفكرية والعلمية. ولا شك أن هناك تباينًا بين التيارات السلفية المعاصرة في أفكارها ورؤيتها، ونقصد بعض الحركات السلفية التي لم تمارس العمل السياسي، أو العنف في التغيير، فهناك اختلافات في من يتبع فقه السلف بصورته السلمية، لكن يتواءم مع الواقع، ومنه من يناقض ذلك، ويبقى على تراث السلف، دون النظر للمستجدات التي تتطلب المقصد التجديدي، كما جاء في الحديث الشريف، ولذلك فإن تعدد الرؤى في المنهج السلفي، يصل إلى اختلافات فكرية ومنهجية برزت منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وزاد انتشارها لدول كثيرة مع اختلافها في المناهج، حتى وصلت إلى بعض الدول الغربية، ولذلك من المهم ألا نعمم الفكر السلفي المعاصر وجعله جميعا في سلة واحدة، لاختلاف المضامين الفكرية والدينية والسياسية، الواقع أن الكثير من الباحثين الذين اهتموا بالتحولات الفكرية للسلفية المعاصرة، ناقشوا مسار هذه التحولات التي اختلفت مع السلفية التقليدية والتراثية والعلمية، التي بدأ فكرها مع أهل الحديث في القرن الثاني الهجري، إلى سلفيات معاصرة عديدة، منها السياسي والجهادي، وهذه تتطلب حديثًا آخر.

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية: مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين».