السرد الاستراتيجي والقبول المجتمعي

28 مايو 2022
28 مايو 2022

في سياق (عالمي) تتباين فيه موجات القبول بالسياسات العامة لدى المجتمعات والأفراد، تصبح مهمة الإقناع بالسياسة العامة أحد أكثر العتبات صعوبة في منظومة التواصل السياسي مع المجتمعات، ويصبح دور تصميم الرسالة التواصلية مع المجتمع بالنسبة لصانع السياسة وحشد القبول المجتمعي النسبي حولها هو نقطة الارتكاز التي يجب الانتباه إلى تجديد أدواتها وأساليبها وتغيير نسيجها. ولذلك طرأت خلال السنوات الفائتة العديد من الأطروحات حول ما يُعرف بـ"قوة السرد The Power Of Narrative" ويعنى بها الطريقة التي يؤثر بها تغيير نموذج إيصال السياسة العامة والإخبار والإقناع بها إلى الأفراد من النموذج الكلاسيكي إلى النموذج القائم على سرد القصص والروايات وتحوير معطيات السياسة العامة إلى حبكة وشخوص وحكايات. وقد لاقت هذه المدرسة صعودًا متسارعًا مع طبيعة الأبحاث البينية التي جرت حول تأثيراتها ومع توسع منظورات صنع السياسة العامة التي أصبحت تدمج علوم النفس والأعصاب والاجتماع والسرد في فرق العمل القائمة عليها وفي تصميم رسائلها التواصلية مع المجتمع.

ولعل كتاب روبرت شيلر بعنوان "Narrative Economics: How Stories Go Viral and Drive Major Economic Events" أحد أهم الأطروحات التي توجهت للاقتصاديين في هذا المجال، حيث يستعرض أحداثا تاريخية لحكايات ومرويات تتعلق بالجانب الاقتصادي ساهمت في تشكيل الأحداث الاقتصادية الكبرى ومنها الكساد العظيم في مطلع القرن العشرين ودور الرويات حول تملك العقارات في الولايات المتحدة في تحريك بعض التحولات الاقتصادية المهمة التي شهدتها مطلع القرن الحالي إلى دور المرويات في تحول العملات وغيرها من الاستشهادات التاريخية التي يؤكد فيها شيلر دعوته للاقتصاديين المعاصرين للتنبه إلى قوة السرد في إثبات حجيتهم وفي تقديم القصص التي ستكون أكثر سهولة للتقبل مما لو كانت مقترنة بالأرقام والمعادلات والإحصاءات، كما يركز شيلر على مسألة التحليل العصبي لدور السرد والقصص من خلال دور القصة في تحفيز بعض الهرمونات بجسم المتلقي كالأوكسيتوسين والكورتيزول التي تقوم في أحوال عديدة بحفز تغيير السلوك ونوعية التلقي العام للفكرة المراد تناولها.

تتمثل قوة السرد في الإقناع بالسياسة العامة في أنه يتجاوز اللغة الجامدة (المتخشبة) في إيصال الرسالة ويتكئ كذلك على ضمنيات تحاول مخاطبة الغريزة البشرية بكافة مستوياتها ومرتكزة على فهم الإنسان في موضعه وزمانه وحاله وتحيزاته وهواجسه وتطلعاته ومخاوفه وبالتالي التعمق في فهم الحبكات أو الرمزيات أو قوى اللغة والإشارة التي تمكن من محاورة الأعماق الذاتية للفرد، كما ويتيح السرد فرصة لإيصال الأهداف الخفية المرادة على المدى المتوسط والطويل من السياسة العامة ويقرب الأفراد من فكرة "الملكية العامة" لتلك السياسة من خلال الطابع الإنساني الذي يضيفه على محتوياتها ومن خلال الممكنات المتاحة للغة السردية والخيارات التي يمكن أن تتحرك فيها لمخاطبة كافة الفئات والشرائح والاهتمامات والانتماءات، كما يمكن لقوة السرد أن تكون قوة حافزة للإلهام ولدفع الأفراد لأن يكونوا جزءا من تلك السياسة المراد إيصالها وعناصر مهمة في رسالة التغيير التي تحملها أو تتوجه إليها سواء كان تلك السياسة سياسة اقتصادية أو مالية أو اجتماعية أو ثقافية أو تعليمية أو بيئية. المجتمعات حكاءة بطبعها وهي تعيش بدرجة أساس حياتها الاجتماعية على عنصر الحكاية أو القصة والأفراد عمومًا ينظرون للمجتمعات على أنها ذوات محكية لها تاريخها ولها مستقبل متخيل تسير إليه وأن هناك خطا واصلا متخيلا بين تلك المناطق الثلاث وبالتالي هم ينتظرون من أي سياسة عامة أن تكون ضمن ذلك الخط الواصل المتخيل أو جزء من تكوينه لا تصيبه بالهوان ولا تثقله بالشد وهنا تكمن الأهمية القصوى لبناء سرد يتعمق في المخيال الاجتماعي ويتأسس عليه.

تقول باربرا هاردي: "لأننا نحلم بالسرد، أحلام اليقظة في السرد، نتذكر، نتوقع، نأمل، نعتقد، نشك، نخطط، نراجع، ننتقد، نبني، نموه، نتعلم، نكره، ونحب بالسرد، من أجل أن نعيش حقًا نصنع قصصًا عن أنفسنا والآخرين، عن الماضي والمستقبل الشخصي، وكذلك الاجتماعي". وإذا ما جئنا لإمكانات الاستثمار في قوة السرد في السياق المحلي، فنحن نعتقد أن التحول الراهن في النموذج التنموي الذي يجري مع شروع البلاد في رؤية عُمان 2040 بمجمل السياسات العامة والتوجهات والأدوار المنتظرة من المؤسسات والأفراد يمكن أن يوازيه استثمارًا في خصيصة السرد من خلال تغيير نمط الخطاب والتواصل حول السياسات العامة ومجمل ما ينبثق عنها من قرارات وتوجهات تقدم للأفراد وأن يكون هذا الخطاب مركزًا على أنماط جديدة في رسالة الاتصال والتواصل تستوعب طبيعة اللحظة التاريخية للفرد في المجتمع وتتناغم مع ما يتوقعه وتحفز فيه الاتصال بالمستقبل بواقعية وتتنبه إلى التركيز على ما وراء فكرة السياسة العامة وتعميقها لدى الفهم العام وإدماج كافة المنظورات الممكنة في النفس والاجتماع والأعصاب وسواها في تصميم رسالة اتصال ناجعة للسياسات العامة وقادرة على حفز أساسها الأصيل من خلال شعور الناس بالملكية العامة لها. وفي كتابه "القيم المعنوية" يشير الكاتب ريتش كارلجارد إلى أن قوة تأثير السرد تعود لعدة عوامل منها:

1- ثورة البيانات وهيمنة الأرقام والإحصاءات على مختلف أشكال الحياة البشرية (التكميم).

2- تضاؤل قدرة الأفراد على الاحتفاظ بما يتلقونه في هيئة أرقام وإحصاءات وقوائم منضدة وجداول بيانات.

3- قدرة القصص على حفز الربط والمراجعة والمقارنة لدى الأفراد.

4- دفع القصص الأفراد إلى نسج خيوط فهم حول ما يتلقونه من سرديات ومعطيات بما يمكنهم من تفصيل الأفكار المعقدة.

5- قوة تأثير السرد على تغيير الاتجاهات والقناعات والتصرفات والمشاعر.