السذاجة التاريخية.. تجاوز استحقاقات الواقع

26 فبراير 2023
26 فبراير 2023

ينبثق مفهوم الـ «سذاجة التاريخية» من ذات مفهوم القفز «على المراحل» أو القفز «على النتائج» حيث يتم تجاوز مجموعة الاستحقاقات التي يجب أن تكون حاضرة، أو مؤسسة لأي إجراء عملي يدخل في مفهوم «مشروع» فالديمقراطية؛ على سبيل المثال؛ والتي تحققت عند بعض الشعوب - كما هو التقييم - ما كان لها أن تتحقق إلا بعد أن أريقت الدماء، وتقوَّضَتْ المفاهيم، وتهدمت العروش، وبالتالي؛ لا يمكن أن تحققها شعوب آخر بمجرد التنظير بها، أو إدراجها ضمن الدساتير، ومعنى هذا فتحققها في بيئة اجتماعية معينة، لا بد أن تمر بذات المراحل التي مرت بها الشعوب التي تتمتع بها، والبناءات المعرفية؛ مثال آخر؛ التي تنجز بها شعوب خططها، وبرامجها الإنمائية، وتتصدر بها على قائمة الشعوب في تعظيم العائد التنموي لبلدانها، وما تنجزه من إنجازات نوعية في مختلف المجالات، لا يمكن لشعوب أخرى أن تصل إلى ذات المستوى؛ وهي المستقدمة لنتائج هذه المعرفة للاستهلاك اليومي، والتباهي بهذا الاستهلاك ولو ملكت ما ملكت من أرصدة مالية وغير مالية، أو أن تكون ضمن ذات القائمة؛ والمعنى يذهب أكثر إلى أن لكل شيء أساس مستحق، ولا يمكن أن يتحقق ذات الشيء إلا من خلال الانطلاق من أسس تكويناته الحقيقية، والأخذ بالأسباب، وإلا عد ذلك تجاوزا للحقيقة الموضوعية، وأن هذا التجاوز لا يعدو عن كونه «سذاجة تاريخية» تبعث على الشفقة لا أكثر، وتؤرخ في الذاكرة مفاهيم مغلوطة لحقائق الأشياء ونصاعتها، وتأصيل جذورها، والخوف هنا أكثر عندما ترث الأجيال ممن سبقهم هذه المفاهيم المغلوطة في التعامل مع الأشياء، وفي توظيفها على الواقع، فهل تعي الشعوب التي تقع في هذا المأزق حقيقة هذه المسألة؟

فالمختصرات الزمنية بهذه الطريقة «المرتجلة» لا يمكن أن تؤسس قوى ماكنة لمشاريع الحياة، ولا يمكن قبولها أصلا كمنهج يمكن الاعتماد عليه، سواء في مشروعات الوطن، أو المشروعات الخاصة عند الأفراد، فبناء منزل؛ على سبيل المثال؛ لا يمكن أن يتم في عشية ليلة أو ضحاها، فكم من الجهود سوف تحتاجها مرحلة التأسيس، وكم من جهود تحتاجها مرحلة الإنشاء، وكم من جهود تحتاجها مرحلة «التشطيبات» النهائية، مع ما يستلزم كل ذلك من رسم الخرائط، وشراء المواد، والاستشارات الهندسية المختلفة، فهذا مثال مادي بحت؛ وبسيط في نفس الوقت، فما بالكم بمشاريع إنسانية، وبمشاريع وطنية، وبمشاريع اجتماعية، وبمشاريع تنموية، وبمشاريع سياسية، وبمشاريع استراتيجية، ولذلك تسقط هنا القرارات الارتجالية في أول خطواتها عند المضي وفق فكرة المختصرات الزمنية، أو القفز فوق المراحل، وصورة الإنزال بواسطة بـ «البرشوت» الشائعة الصيت، لا يمكن أن تنطبق على كل المشاريع؛ بلا استثناء؛ وإلا انطبق على العملية برمتها مفهوم «سذاجة تاريخية» مع أن التاريخ جلمود أصم لا يقبل المراهنات المهلهلة، ولا يستسيغها خارج سياقاتها الزمنية المعتمدة.

عندما تقيَّمُ القناعة بإمكانية الوصول إلى تحقق الخطط والمشروعات بلا تكلفة زمنية معقولة؛ مقارنة بما وصل إليه الآخرون، يعد جانبا من هذه السذاجة التاريخية، فالاستحقاقات الزمنية تظل عمودا فقريا لا يقوم أي مشروع مهما تناء صغره عن المرور من خلاله، والاصطباغ بدقائقه وساعاته، وأيامه ولياليه، فاللحظة الزمنية هي التي يمكن أن تعطي نفسا كاملا للبناء والتطوير، ولذلك فكثيرا ما يقع صاحب تنفيذ؛ أي مشروع؛ في المأزق التاريخي عندما يعد باكتمال التنفيذ في زمن ما، ولا يستطيع أن يحقق ذلك انعكاسا لعوامل زمنية، أكثر منها مادية؛ أخل هو بالأخذ بها بصورة صحيحة؛ ولذلك فالمقومات المادية لا يمكن أن تكون بديلا مطلقا عن الفترات الزمنية، ووفقا لهذا الفهم أعلاه يكثر ترديد عبارة «بدأنا من حيث ما انتهى إليه الآخرون» سواء على المستوى الرسمي، أو المستوى الفردي وفي ذلك تجاوزا للفهم الموضوعي، والأكثر خطورة في هذا الخطاب عندما تتبناه الوسيلة الإعلامية للترويج للمشروعات التنموية؛ في حالة المستوى الرسمي؛ دون استحضار القيمة الحقيقية للزمن، والقيمة الحقيقية لمجموعة الأسباب التي يجب أن تؤخذ بها لتعظيم الإنجاز بصورة صحيحة، حيث تتم المجازفة بهذا الفهم لإقناع شريحة كبيرة من المتلقين بسلامة الخطوات المتخذة لإنجاز المشروعات، وعندما لا تتحقق هذه المشروعات، ينزوي هذا الخطاب خجلا، حيث تتلاشى المبررات «خجلا» وهذا مما يجب التنويه إليه والحذر منه، حتى لا يتسلل إلى الذاكرة مفاهيم مغلوطة لدى الأجيال الصغيرة التي تهضم أي خطاب تتلقاه، فتحتضنه ومن ثم تفرغه كمنهج بعد عمر من الزمن، ولو على مستواها الخاص.

في تقييم ما؛ لا فرق بين الصورة الاحتفالية والسذاجة التاريخية، فكلاهما ينطلقان من البهرجة المؤقتة، المغرية في لحظة حدوثها، ولكنها لا تتيح عمرا ممتدا يمكن القياس عليه في البناء والتشييد، وكلاهما يتركان أثرا نفسيا حيث انزواء الأحلام والطموحات، وكلاهما يتركان صدمة أخرى، مفادها أن البناءات المختلفة لا بد أن تأخذ استحقاقاتها الزمنية، والمادية على حد سواء، وأن المسألة ليست بالبساطة التي تتراءى، مثل ما يقال: «الأمور تمشي» أو كما يُنَظَّرَ لها، فما يشاهد من إنجازات لدى الشعوب، لا شك أن أسندته جهود جبارة، حتى تحقق ما تحقق على أرض الواقع، ومعنى ذلك أن الأمر يحتاج إلى كثير من العمل والتخطيط، وتوظيف المعرفة توظيفا حقيقيا ما يعبر عن حقيقتها المجردة الذاهبة إلى التحرر من العشوائية، والفوضوية، والقرارات الارتجالية، والذاهبة إلى الأخذ بالأسباب، واستحضار حسابات التكلفة، وهذه الأخيرة يجب أن ينظر إليها بكثير من الاهتمام، لأن ممارسة «الخطأ والصواب» نصيب مرة، ونخطئ مرات ممارسة غير صحيحة، بل خاطئة، وإن حدثت مرة، لا يجب أن تتكرر في زمن يمكن احتساب كل خطوة فيه حسبة دقيقة؛ لا تقبل المفاضلة بين شيئين.

أخطر ما يكون؛ في هذه المسألة؛ أن يتوغل مفهوم السذاجة التاريخية في برامج التنمية؛ حيث يكون الإنتاج وفق مفهوم الكم، وليس الكيف، وفي ذلك خطورة كبيرة، على مشروعات التنمية، حيث تفقد متانتها، وقوتها، وعمر بقائها، فالتسارع في حصيلة الكم، على حساب الكيف، في تنفيذ المشروعات التنموية، قد لا يكون إجراء صحيحا، ومفهوم «تلبية ضغوط الجماهير» يكون مبررا متسرعا فيه، ويحتاج إلى كثير من المراجعة، لأن في ذلك سلبيات كثيرة، منها ارتفاع حسابات التكلفة للمشاريع، ومنها ضعف جودة الخدمات، ومنها تسارع الأعمار الافتراضية لذات المشروعات، وهذا ما يحدث؛ عادة؛ في برامج التنمية، وخاصة في الدول النامية، التي تسابق الزمن لأن تهتم بالكم أكثر منه بالكيف، حتى تسجل سبقا في حصيلة الإنجازات، مع أن الحكومات تدفع أثمانا مضاعفة بعد فترات الزمن القصيرة، لضعف البنى الأساسية للخدمات، وهذا لا يعد من تعظيم النتائج، وإن نظر إليه بهذا التقييم، فما الفائدة من علاج مريض بأدوية مضادة، دون إجراء جراحات استئصالية لذات المرض؟

لن تحل «السذاجة التاريخية» بديلا عن الأخذ بالعوامل والأسباب الحقيقية في جميع البناءات المادية والمعنوية في كل مشروعات التنمية، ويظل القفز مباشرة إلى النتائج قبل استحقاقات وتمكين الأسباب؛ أسلوب ليس فيه من الحكمة، والتروي، والأخذ بالطرق العلمية الحديثة يصبح في حكم الواجب، وخاصة اليوم في ظل توفر الكثير من الأدوات والوسائل التي تعين على حسابات التكلفة الحقيقية، والأرقام الصحيحة بدقة متناهية، كما تعين على بيان وتوضيح دراسات الجدوى بكل سهولة ويسر، على العكس عما كان عليه الأمر قبل نيف من الزمان.