السائرون نيامًا

21 أبريل 2024
21 أبريل 2024

بعيدًا عن التفسيرات العلمية والفلسفية لظاهرة السير أثناء النوم أو ما يعرف علميًا بـ«السرنمة» وهي حالة تحدث أثناء النوم العميق قد يتجول فيها الشخص أو يقول كلامًا أو يرتكب أعمالًا، لكن بمجرد أن يفيق في الصباح لا يتذكر شيئا عن ذلك. و«السائرون نياما» هو عنوان رواية للكاتب المصري سعد مكاوي، أردت أن أستعير هذا العنوان لربما لوجود تشابه مع حالاتنا نحن وكأننا نسير نياما بين من هم لا ينامون، وهو ما يليق بنا نحن العرب الذين نعيش في هذه الأرجاء الممتدة من الماء إلى الماء.. بلاد وصفها فخري البارودي في قصيدته المشهورة «بلاد العرب أوطاني». عندما ننظر حولنا أنرى أوطانا أم شيئا مختلفا؟ في الحقيقة ليس نرى إلا أكواما من المآسي والكوارث، ليس إلا خسارات متتالية وإخفاقات تستوطن بواطن هذه الأوطان، ليس إلا أحلاما مجهضة لشعوب تحلم بغد أفضل، أجسادا مترهلة نخرها الوهن وتداعت عليها الأمم، كثرتها ليست إلا كغثاء السيل كما حذر من ذلك رسول الله،

من منا لم تحدثه خلجة نفسه مرة أو مرات ويتساءل لماذا نحن العرب عرضة لكل هذه المصائب والكوارث؟ لماذا نحن الوحيدون الذين تدك أراضينا بأعتى الأسلحة، يجتمع علينا كل مجرمي العالم وقتلتهم؟ لماذا تتردى أحوالنا وتتشتت وحدتنا؟ راقب نزار قباني حال العرب فكتب في قصيدته (متى يعلنون وفاة العرب؟): «أنا منذ خمسين عامًا أراقب حال العرب وهم يرعدون ولا يمطرون، وهم يدخلون الحروب ولا يخرجون، وهم يعلكون جلود البلاغة علكا ولا يهضمون».

سؤال وجهه العقيد معمر القذافي في القمة العربية التي عقدت في دمشق في مارس 2008م وكانت الأوضاع العربية متردية وكارثية لكن الرئيس كان أكثر واقعية مما كان عليه في السابق وتكلم عن الوضع العربي بحسرة وحرقة وتنبأ فيها بأشياء حصلت لاحقًا ومنها مقتله هو (قتل في الأول من أكتوبر 2011) وكانت كلماته تشبه خطبة الوداع وكأنه يسلّم الأمانة ويوصل الرسالة فمن أراد أن يفهم فله ومن أراد غير ذلك فله أيضًا. تساءل بحرقة وألم: «من هم العرب؟ من نحن؟» وكأن كلامه يوجه لأناس بعيدين، ربما يأتي بهم الزمان ذات يوم. فيجيب العقيد هو على السؤال: «نحن للأسف الشديد أعداء لبعضنا، كلنا نكره بعضنا ونتخاصم مع بعضنا ونكيد لبعضنا ونشمت في بعضنا ونتآمر على بعضنا، مخابراتنا تتآمر على بعضنا، ما تحمي فينا من العدو، نحن عدو لبعضنا، العربي صديق للآخر، ويا ليت هذه الشدة والحدية التي نستخدمها على بعضنا نستخدمها للعدو، نحن العرب لا عملة واحدة ولا دولة واحدة ولا مصرف مركزي واحد ولا تسويق واحد ولا موقف تفاوضي واحد ولا تصدير ولا استيراد واحد ولا اقتصاد واحد، لا يوجد شيء اسمه عربي، يمكن دمنا واحد لغتنا واحدة، عدا ذلك نحن لا يجمعنا أي شيء إلا هذه القاعة».

هذه حالة العرب. كلنا يدرك وهو يستمع ويقرأ تلك الكلمات بأن ذلك الوصف هو للأسف ما يليق بنا ويشخص حالتنا ولو أن القذافي كان هو جزء من تلك الأوضاع المتردية التي أوصلت العرب إلى هذه الوضعية لكنه والحق يقال كان يستشعر الخطر الذي ينتظر العرب وكان صريحًا وصادقًا.

العرب الأمة الواحدة التي يتغنى بأمجادها وعزتها، ما يجمعنا أكثر مما يفرقنها، هكذا يقال لنا ونقرأ في الأدبيات لغة عربية واحدة وثقافة وتاريخ، وموقع جغرافي واحد متراص من الماء للماء لا يفصل بيننا شيء. من الحقائق الدامغة التي لا تقبل القسمة وليس مبالغا إن قلنا: إنّ العرب فعليًا أمة واحدة شاء من شاء وأبى من أبى، فما يجمعنا هو تلك الحقائق التي يقوم عليها العقل والوجدان العربي. لكنّ الواقع مختلف تمامًا، العرب ليسوا إلا أمة مشتتة لا يجمعهم شيء. عمليًا ومع مرور الزمن والوقت وربما بفعل فاعل تحولت تلك الحقائق إلى ما يشبه الأوهام والأساطير، وأصبح العقل العربي محشوًا بها. لكن في الحقيقة ما أريد أن يجمعنا شيء إلا ضرب من الخيال.

أهو خلل في أنماط تفكيرنا، أم هي أوهام وأساطير تترسب في عقولنا وتحدد أنماط تفكيرنا؟ أهي فعلا أنماط ثلاثة كما حددها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في تشخيصه للعقل العربي، وهي البيان والبرهان والعرفان؟

لكن ونحن نعيش الحاضر العربي المتردي يجدر بنا أن نفكر أيضًا في أنماط أخرى ساهمت أو كانت سببًا في تأسيس أشكال أخرى من المسلّمات التي ارتكز عليها العقل العربي في تفكيره، وربما كانت هي الأكثر حدّة وتأثيرا في حياتنا. وتبرز ضمن تلك الأنماط ما يمكن تسميته بالأوهام والأساطير التي تؤطر العقل العربي وتشل فكره وتخشبه متكئا على تلك الثيمات التي تحولت مع مرور الزمن وكأنها مقدسة وغير قابلة للتغير أو القفز عليها وتجاوزها على غرار ما ذهب إليه المفكر الفرنسي روجي جارودي وهو يكتشف الأساطير المؤسسة للصهيونية.

العلاقة بين الإسلام والعروبة، إحدى المعضلات التي تؤثث العقل والتفكير العربي واهما أن الهوية الإسلامية هي ما يجمعنا كعرب ومسلمين. فمنذ انبثاق القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر، طرحت مسألة العلاقة بين العروبة والإسلام، عاش خلالها العرب في دوامة من الوهم والاختلاف مع التيارات الإسلامية التي أنكرت على العرب هويتهم القومية منادين بالهوية الإسلامية بعيدًا عن القومية العربية، احتدم الصراع الفكري بين القوميين والإسلاميين، فحمل الإسلاميون كل مآسي العرب إلى القوميين العرب، وكذلك القوميون ألصقوا كل آيات التخلف والتقهقر بالإسلاميين.

من ذلك التراشق ومن تلك الجوقة انبثق السؤال التالي: ماذا يريد العرب من المسلمين؟ وماذا يريد المسلمون من العرب؟ عمليًا ومنطقيًا ليس من شيء يوحد الأمم والشعوب كالكوارث والمصائب ويدعو إلى التضامن والوحدة والتآزر. فمن الحروب والمآسي يخلق التراحم والتعاطف والتوحد. أن نفكر أن الإسلام هو ما يجمعنا وليس إلا أضغاث أحلام عندما نعتقد أن الإسلام هو ما يشد أزرنا نحن العرب. ربما ارتكبت التيارات الإسلامية خطأ فادحا عندما طرحت أن الدين هو ما يوحدنا، فها نحن نقف مكشوفين عراة حفاة أمام آلة القتل والدمار الصهيوغربية، كما الغريق الذي يتشبث بقشة تنجيه من الأهوال، ذلك ما يحدث عندما نسمع عن دولة إسلامية تقف ولو نظريًا معنا ومع قضايانا وتتعاطف معنا. لكن الحقيقة المرة أن الأمور الجيوسياسية مختلفة ومتغيرة ومتبدلة والأوراق يعاد خلطها وتغيرها، ولا تبقى الأمور نفسها هي هي لا تتبدل، فإذا كانت الهوية الإسلامية ما يجمعنا وذلك ما كنا نتمناه وجلبنا عليه، وما كنا نفكر فيه نحن العرب بأن هناك من هم عضد لنا في وقت الشدائد والمحن هم الدول الإسلامية (نتكلم عن دول وليس عن أفراد)، فإن ذلك يبدو وهمًا. في المقابل عندما ينظر المسلمون إلينا نحن العرب ماذا قدمنا من صورة عن أنفسنا، سيتبين له إننا لسنا إلا أمة مشتتة متفرقة لا يجمعنا شيء، ولا نشكل أي أثر في العالم، وبالتالي لماذا ننظر للآخر المسلم المتمثل في الدول الإسلامية بأنه لا يقف معنا ويغدر بنا يبيعنا للغريب ويعمل على تدمير دولنا ووحدتنا وبث المذهبية والعرقية بيننا؟

مشكلتنا نحن العرب أننا ما زلنا نخلط بين الإسلام كدين وبين القومية العربية، بين المسلمين والعرب، المسلمون كشعوب غير عربية ليس لهم علاقة بالعرب ولا قضاياهم ولا طموحاتهم، وكل ذلك وهم. فمثلا العرب ينظرون إلى الدول الإسلامية وكأنها المخلصة لهم من براثن الاحتلال الصهيوني، تقاتل عنهم وتحررهم وتناصرهم وتكون عونًا لهم، يبحثون عن البطل المخلص سواء كان شخصا قائدا أو دولة. لكن الحقيقة هي أن الدول الإسلامية لا علاقة لها بالعرب وقضاياهم، توجهاتهم تختلف وتحالفاتهم تختلف وربما ينظرون إلى إسرائيل بشكل مغاير، هذه الدول لن تحارب عن العرب ولن تفقد أبناءها وأموالها فداءً للعرب وقضاياهم، وذلك من حقها ويخدم مصالحها وربما تستخدم الإسلام والعرب فقط للوصول إلى أهدافها. نهلل ونكبر ونرقص فرحًا عندما تشتبك دولة إسلامية مع عدونا ،وعندما تهادنه نلعنها ونشتمها، لكن عندما نعود إلى منطق الأشياء والتفكير مليا بعيدا عن الشعارات والأوهام يتبين لنا أن الدول الإسلامية لن تفعل شيئا إلا إذا استقام مع مصلحتها وبما يتناسق مع مصالح شعوبها وتحالفاتها الدولية والإقليمية. ندرك تمامًا أن العالم لا يدار بالأخلاق والمبادئ ولا تشكل وحدة اللغة والدين ولا الموقع ولا الثقافة أي تأثير في النظام العالمي. علينا نحن العرب أن نكف عن العيش في الأوهام ومطاردة السراب. إذا كان العرب هم أنفسهم لم يقدموا للعالم صورة واضحة عنهم فهم وقادتهم في الوقت الحالي مشتتون ومتفرقون وأغلبهم منقسمون وعرضة للتجاذبات الإقليمية والدولية، وتحول أغلبهم إلى وجود وظيفي فقط يطلب منهم إما التوسط أو حاملي رسائل أو محايدين أو معزولين في أضعف الحالات. هكذا تبدو الصورة لي.

إنه للخروج من هذه الوضعية والتشرذم ولنرسخ وجودنا ونكون فاعلين في هذا العالم المتوحش، علينا أن نعيش ونفكر في إطارنا ونعمل بالمثل العربي (ما يحك جلدك إلا ظفرك) ونتخلى عن تلك الأساطير وغيرها من الأوهام التي تؤسس وجودنا، ينبغي لنا أن نعيد اللعبة على أسس مختلفة، فالتجارب الدولية تثبت أنه لا العرق ولا اللغة ولا الدين ولا الثقافة ولا التاريخ المشترك هو ما يجمعنا، علينا أن نؤسس علاقتنا مع الآخر أينما كان هذا الآخر على علاقة بوسائل وآليات مختلفة حديثة متطورة. ومنها ترسيخ بنية وجودية مختلفة تقوم على الديمقراطية والمواطنة الحقة والحريات التي تساعد على ترسيخ الوحدة والاتحاد فليست الشعوب العربية وحدها هي المقموعة وتعيش مسلوبة الحرية فالسلطة العربية في أعلى مراتبها تعيش القمع وسلب حريتها من قبل الآخر المهيمن عليها، فكيف لها أن تعبّر عن واقعها وتشترك في تغيير الواقع بينما نشاهد من حولنا شعوب العالم الحر لا تقف ساكتة عن أي قرار يمس وجودها وكرامتها لتنتفض وتحتج ويكون صوتها مسموعًا ويحسب له. والله مهما بحث العرب عن عزتهم وقوتهم لن يجدوها إلا في وحدتهم ونصرة بعضهم بعضا ودمقرطة حياتهم ومحاربتهم للفساد والظلم والعدوان والجبروت. لن تقوم للعرب قائمة إلا بالصراحة والمكاشفة، ولا مستقبل لهم إلا بوجود فضاء كبير يجمعهم ويحميهم. يجب أن نحدد وجهتنا من هذا العالم، يجب أن نفيق من غفوتنا ونومنا الطويل، سؤال وجودي يجب أن نجيب عليه، إلى أين نحن ذاهبون؟ أما آن لهذه السرمنة أن تنتهي؟

د. بدر الشيدي قاصّ وكاتب عماني