الرفاه والحماية الاجتماعية
يُعد الرفاه أحد المفاهيم التي يصعب تحديد مفهومها نظرا لارتباطه بمجموعة من الأنماط المعيشية التي تختص بالصحة والتعليم والمستوى المعيشي للأفراد، إلاَّ أنه يظل مؤشرا أساسيا تسعى الحكومات والبلدان إلى تحقيق ازدهاره، لما يمثِّله من أهمية في حياة المجتمعات، وقدرة الأفراد على المساهمة الإيجابية والفاعلة في تحقيقه؛ ذلك لأن الحكومات لا تستطيع وحدها بلوغ هذه الغاية ما لم يكن أفراد المجتمع مهيئين منذ سنواتهم الأولى على تحقيق أهداف رفاهية حياتهم وحياة مجتمعهم.
ولأن الرفاه يتعلَّق بالمجتمع فإنه يتأسس ضمن أهداف المنظومة التعليمية منذ البدء؛ بحيث يكون للتعليم القدرة على تغيير حياة المتعلمين؛ ذلك لأن هذه المنظومة عليها أن تؤسس مفاهيم الممارسات الصحية من ناحية، والأخلاقية وأنظمة التعامل من ناحية أخرى، وبالتالي فإن تربية أفراد المجتمع منذ طفولتهم وفق أنماط تُعزِّز الصحة البدنية والعقلية سيضمن قدرتهم على تحقيق الرفاهية التي يطمح إليها المجتمع. إن هذه التهيئة تمكِّن أفراد المجتمع من النمو الصحي والآمن، فتنمية الرعاية الصحية في المدارس يمثِّل دعامة أساسية من أجل تحقيق الرفاه.
وتحقيقا لأهداف الرفاه المجتمعي وانطلاقا من أهمية المنظومة التعليمية في ذلك، فقد عمدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، إلى إعداد استراتيجية خاصة بعنوان (استراتيجية اليونسكو بشأن التعليم من أجل الصحة والرفاه)، سعيا لتحقيق الاستراتيجية التنموية 2023، بُغية توفير الإطار الشامل لعمل يتوافق مع استراتيجيتها متوسطة الأجل (2022-2029)؛ حيث ترتكز على تلك العلاقة الوثيقة بين التعليم والصحة من ناحية، وبينه وبين الرفاه المجتمعي والسعادة من ناحية ثانية، ولهذا فإن الاستراتيجية تقوم على مجموعة من المحددات الخاصة بالصحة والبيئة المدرسية الإيجابية والفاعلة؛ إذ تُعد المدارس المعززة للصحة الآمنة والشاملة للمتعلمين أساسا للتعلُّم الفاعل، والقادر على التأثير في شخصيتهم وقدرتهم على التفاعل الإيجابي والمشاركة في مجتمعهم.
ولهذا فإن الرفاهية التي تقدمها البيئة المدرسية تؤسس لأنماط الحياة الإيجابية، وتحقق أهداف الدولة في تحقيق الرفاه من خلال بناء أفراد يتمتعون بممارسات فاعلة وإيجابية من الناحية الصحية والاجتماعية، وقادرين على ابتكار أساليب حياة ومصادر دخل داعمة لتطور نمط العيش في المجتمع، والحال نفسه في البيئات الأكاديمية التي تقدمها مؤسسات التعليم العالي لمنتسبيها؛ فالرعاية الصحية والاجتماعية التي يحظى بها المتعلمون تكسبهم المهارات والقدرات التي تؤهلهم للخروج إلى الحياة وسوق العمل بآفاق متجددة، تمكِّنهم من تحقيق أهدافهم باعتبارهم أفرادا فاعلين في مجتمعهم.
ولأن الرفاه مطلب تنموي للحكومات والدول، فإن الحكومة في سلطنة عُمان سعت منذ البدء إلى تأسيس المنظومة الصحية والتعليمية والقانونية بل والاجتماعية ليتمكَّن أبناء المجتمع من تحقيق الرفاهية في حياتهم اليومية، ولهذا فإن هذه المنظومات تتطوَّر بتطوُّر المجتمع نفسه وقدرته على النمو ضمن مجموعة من المتغيرات التنموية الداخلية والخارجية، ونظرا للانفتاح التقني والمعرفي الذي يشهده المجتمع، فإن الرؤى الوطنية تتغيُّر وتنمو وتطوِّر من قدرتها على إيجاد البيئة المناسبة لتطوير منظومة الرفاه نفسها باعتبارها نتيجة أساسية وغاية للتطوير التنموي في الدولة، ولذلك سنجد أن الحكومة تحرص على مواكبة منظومة الحماية الاجتماعية لتلك المتغيرات وذلك النمو المعرفي، بحيث تُحقِّق المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع، وهذا الحرص لا يشمل ضمان حصول الأفراد على حقوقهم المادية وحسب بل أيضا تطويرا وتمكينا للمنظومة الصحية والتعليمية كونهما الأساس الذي يُحقق تلك الحماية.
إن منظومة الحماية الاجتماعية التي تنشد الرفاهية، تتحقق وفق مجموعة من البرامج والخدمات التي تقدمها الدولة لأفراد المجتمع، ولعل اشتغال الحكومة على المنظومة القانونية خلال السنوات الأخيرة من حيث تحديثها ومواكبتها للمتغيرات تهدف جميعها إلى تحقيق الغاية نفسها؛ ذلك لأن القوانين والتشريعات هي الناظم والمُيسِّر لمنظومة التطور والتنمية في المجتمع، وبالتالي فإنها تقدِّم آفاق التنمية البشرية الفاعلة، القادرة على بناء المجتمع، وتحقيق التكامل والشراكة بين القطاعات التنموية المختلفة (الحكومية، والخاصة، والمدنية)، لتكون مساهمة في دعم التنمية المجتمعية وبالتالي تحقيق الرفاه.
ولهذا فإن الحماية الاجتماعية واحد من أبرز برامج الأمان الاجتماعي الذي يحقق الفاعلية والاستدامة والعدالة بين أفراد المجتمع، ولقد حرصت حكومتنا على تأصيل ذلك من خلال مجموعة من البرامج والتوجيهات السامية التي دعمت ضمان حقوق أفراد المجتمع خاصة الفئات من ذوات الدخل المحدود أو الأطفال والمعاقين وغيرهم ممن يحتاجون إلى رعاية خاصة. ولعل صدور قانون الحماية الاجتماعية في قادم الأيام سيشكِّل نقلة نوعية في مساقات تلك الحماية، وقدرتها على تشكيل منظومة الرفاه وفق رؤية يقودها الحرص على المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع من ناحية، وضمان مبدأ التشاركية الفاعلة بين القطاعات، الأمر الذي سيُسهم في تأسيس بيئة اجتماعية محفِّزة وقادرة على التنافس والمساهمة في الاقتصاد الوطني.
ولعل ارتباط الرفاه بمنظومة الحماية الاجتماعية من ناحية والمنظومة التعليمية والصحية من ناحية أخرى، وبالتالي المنظومة الاقتصادية التي تحققه، قد جعله محور القضايا التنموية، وأساس الرؤى المستقبلية التي تحاول الوصول إلى أفضل الممارسات والاتجاهات التي تحقق الرفاه؛ حيث أصبح الرفاه مطلبا لكل البيئات التي تتضمَّن بنية اجتماعية خاصة كما هو الحال في بيئات الأعمال، فالمؤسسات اليوم تحرص على التنافس لتقييم بيئة الرفاه الخاصة بموظفيها، التي تمكِّنهم من العمل بفاعلية، وبالتالي تزيد من إنتاجيتهم؛ ذلك لأن أفراد أي مجتمع (عام أو خاص) يحتاجون إلى الرفاه في مجالات الصحة والتعليم بشكل خاص حتى يستطيعون تحقيق الأهداف المتوقعة منهم، وبالتالي المساهمة الإيجابية والفاعلة.
لقد نشرت مؤسسة ويستفيلد هيلث (Westfield Health) البريطانية، تقريرا مهما بعنوان (اتجاهات الرفاهية للعام 2023)، لاستكشاف الموضوعات المتعلقة بالصحة والرفاهية واتجاهات البحث، بهدف مساعدة الشركات لتحقيق السبق في رفاهية مكان العمل في العام 2023، وهو عام تشكِّل فيه أزمة غلاء المعيشة والرعاية الصحية تحديا للكثير من المجتمعات، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة لمساعدة الأفراد على تخطي هذه الأزمة، وتحقيق الرفاه المنشود، فكيف يمكن للحكومات مساعدة أفراد مجتمعها، وبالتالي كيف يمكن أيضا للشركات والمؤسسات دعم منتسبيها وتحقيق رفاهيتهم بما سينعكس على أدائها وتحقيق أهدافها؟
يتطلَّع هذا التقرير إلى (إعادة تقييم ثقافة أماكن العمل) من ناحية، وقدرة الأفراد على إحداث التغيير في عاداتهم وسلوكهم اليومي، ولهذا سيظهر (الحوار الفاعل) ضمن أهم الاتجاهات التي علينا العمل عليها من أجل الوصول إلى الشعور بالراحة والتصرُّف بمسؤولية وموضوعية نحو أفراد الفريق بما يحقِّق المصلحة العامة، وبالتالي فإن بناء فريق قادر على سماع بعضه البعض سيدفع إلى التغيير الآمن، الذي يحقق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة من ناحية، والأهداف الشخصية الخاصة بأفراد الفريق، إضافة إلى ذلك يظهر أيضا اتجاه مهم وهو (التركيز على القيم)، وهي تلك القيم الأساسية التي تتأسَّس عليها المنظومة العملية، والتي يجب على الأفراد احترامها والتعامل معها باعتبارها أساسا للتمكين، ثم (سياسة العمل المرنة)، التي تتناسب مع الاستراتيجية العامة ومصلحة الأفراد واحتياجاتهم، إضافة إلى (التخطيط الاقتصادي الفاعل)
ولعل تطبيقات هذا التقرير الذي بُني وفق استطلاعات خاصة بالمملكة المتحدة، إلا أنه يصدق في العديد من الدول؛ ذلك لأنه يتأسس وفق متغيرات تعاني منها دول العالم كلها، وهي متغيرات ما زالت تعصف وتزداد حدة في البعض منها، الأمر الذي يستوجب التوقف عند الكثير من تلك الاتجاهات باعتبارها قضايا مهمة وأساسية في منظومة الرفاه الذي ينشده العالم. والحال أن التركيز على تعزيز المنظومة التشريعية وتيسيرها ومرونتها، وتمكين المنظومة الصحية المستدامة، وقدرة المجتمعات على التمسك بقيمها الحضارية من خلال المنظومة التعليمية والاجتماعية، إضافة إلى الحوار المنفتح المسؤول، سيمكِّن مجتمعنا من تحقيق الرفاه المستدام الذي نسعى إليه جميعا.
إن قدرة الدول على تحقيق الرفاه لأفراد المجتمع يتمثَّل في التأسيس، والخدمات العادلة المستدامة، والمنظومة القانونية المنصفة، ولهذا فإن أفراد المجتمع تقع عليهم بعد ذلك مسؤولية التفاعل الإيجابي، والعمل المشترك، والإبداع والابتكار في مجالات سوق العمل وتفعيل التفكير الناقد في التعامل مع القضايا الاجتماعية التي يواجهها مجتمعهم، وبالتالي فإن هذا التفاعل، والشراكة المجتمعية، والقدرة على فتح آفاق اقتصادية جديدة ومستدامة، وفق اتجاهات وطنية منفتحة على الآخر، والمحافظة على بنية المجتمع وتماسكه سيمكِّننا من تحقيق الرفاه المستدام.
