الذكاء الاصطناعي من أجل الصالح العام

15 أبريل 2023
15 أبريل 2023

تُعد التقنية من أهم التطورات الإنسانية التي أسهمت في التنمية الحضارية في القطاعات المختلفة منذ بداية نشأتها وتطور أنظمتها، حتى أصبحت اليوم جزءا مهما في حياة البشرية في العالم، ولقد كان التوَّصل إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي من أهم تلك التطورات السريعة التي تحتوي على إمكانات هائلة يمكنها أن تُغيِّر الأنماط الحضارية لحياة المجتمعات، بما تمثله من قدرات متزايدة يمكن أن تشكِّل ثورة صناعية، وطبية، وثقافية وتربوية بل واجتماعية، سيشهد بها العالم تحولات بنيوية كبيرة. إن عنوان هذا المقال هو عنوان القمة العالمية التي ينظمها الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) منذ عام 2017م في جنيف، والتي تستعد لانعقادها القادم يومي السادس والسابع من شهر يوليو من هذا العام، في دورة تهدف إلى (تعزيز الذكاء الاصطناعي لدفع عجلة التنمية)، الأمر الذي يُعزِّز دور التكنولوجيا الحديثة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، خاصة في مجالي البيئة والاستجابة الإنسانية؛ حيث سيعرض مبتكرو الذكاء الاصطناعي أحدث ابتكاراتهم وإبداعاتهم التقنية لقادة العمل الإنساني في العالم، بُغية دعم الأهداف التنموية وتسريع تحقيقها.

فالتطورات التقنية التي يشهدها العالم تسهم مباشرة في تعزيز المنافع وتحقيق الأهداف التنموية إذا ما تم النظر إليها باعتبارها إمكانات قادرة على المساهمة الفاعلة والإيجابية من أجل الصالح العام؛ فالذكاء الاصطناعي فرصة للابتكارات الاستثنائية التي تُعزِّز دور التقنية في تسهيل حياة المجتمعات وتيسيرها من ناحية، وتوجيه تأثيرها نحو تحقيق أهداف التنمية الوطنية المستدامة، وإيجاد حلول للتحديات التي تواجه المجتمعات من ناحية ثانية، ولهذا فإن الكثير من الدول أوجدت استراتيجيات خاصة بالذكاء الاصطناعي، تهدف إلى الاستفادة من مجالات تطبيقاتها، وتدعم ضمان الموثوقية والأمن والشمولية لتكنولوجيات هذا الذكاء، وقدرتها العالية على دفع التطورات التنموية في المجتمعات.

والحق أن عُمان اعتنت عناية كبيرة بالتقنيات الحديثة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، انطلاقا من وعيها بأهمية التقنيات في دعم القطاعات التنموية وتطوير عملها وتسريعه، بما يعزِّز تحقيق الأهداف الوطنية، ولهذا فقد أنشأت العديد من الاستراتيجيات والبرامج الوطنية سواء أكانت (استراتيجية عمان الرقمية)، أو (الاستراتيجية الوطنية للنطاق العريض)، أو (البرنامج الوطني للاقتصاد الرقمي)، وكذلك (البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة) الذي أنشئ في عام 2020، بهدف (تشجيع تبني الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة وتوطنيها...) - حسب الموقع الإلكتروني لوزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات -؛ فهذا البرنامج سيضمن إذا ما تم تنفيذه بناء القدرات والابتكارات، وبالتالي التصنيع والاستثمار، وكذلك تطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة، بما يدعم المشاركة الفاعلة لبرامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في تسريع تحقيق الأهداف التنموية في كافة القطاعات.

ولأننا نتحدث عن الذكاء الاصطناعي كونه أحد أهم أذرع التنمية في العالم، فإن دعوة الاتحاد الدولي للاتصالات وكذلك الأمم المتحدة في أن يحمل صفة (الصالح العام)، إضافة إلى ما يقدمه منتدى القمة العالمي لمجتمع المعلومات الذي عُقد في 16 مارس من هذا العام الذي حمل عنوان (الذكاء الاصطناعي من أجل الخير)، وغيرها لم تأتِ من فراغ، ذلك لأن هذه التقنيات تتضمن الكثير من المشكلات والتحديات التي قد تشكِّل خطرا حقيقيا على البشرية إذا ما أُسيء استخدامها، وإذا لم نتنبَّه إلى قدرتها الهائلة على الدمار خاصة على المستويات الصناعية والبيئية والسياسية والثقافية وكذلك الاجتماعية؛ فالذكاء الاصطناعي بما يحمله من إشكالات على مستوى الموثوقية والأمان، فإن تطبيقاته يجب أن تكون ضمن مجموعة من نطاقات واسعة من المأمونية التي تتأسَّس وفق أبحاث علمية قادرة على إحداث آثار إيجابية على التنمية.

إن التطورات التقنية في مجالات الذكاء الاصطناعي تُحدث اليوم نقلات سريعة هائلة على المستويات كلها، خاصة على المستوى الصناعي والطبي والتربوي، وكما علينا الإفادة من هذه النقلات والتطورات فيما يحقق أهدافنا الوطنية، فإن علينا أيضا العمل على ضمان المأمونية والموثوقية من ناحية، والحد من تأثيراته السلبية على المستويات الثقافية والاجتماعية من ناحية أخرى؛ ذلك لأن فرحتنا بالوصول إلى عالم الأتمتة والتحدث إلى الروبوتات، والتواصل المباشر والدردشة مع شخصيات الذكاء الاصطناعي كما هو الحال مع عالم (Chat GPT)، يجب أن لا يُنسينا خطر هذا العالم، والتحديات التي يمكن أن نواجهها إذا ما سلَّمنا إليه زمام الأمور؛ فعلى الرغم من أهمية التطبيقات والتقنيات في حياتنا إلاَّ أنها أسهمت في الكثير من التحديات غير المرئية، التي أفقدت الإنسان العديد من المهارات الأساسية.

فالحال مع التطورات الذكية الهائلة سيجعل الحياة أكثر سهولة، لكن الأصل فيها أن تكون ضمن نطاق الصالح العام؛ وإذا كنَّا نتحدث عن تطبيقات الدردشة مثلا فإن شركة أمريكية مثل المؤسسة الدولية للحاسوب (IBM)، قد استثمرت ذلك في تقديم المساعدات المجانية في مجالات عدة مثل القانون والطب والمعرفة العامة، إضافة إلى إمكانية تطوير تلك التطبيقات إلى منصات تساعد في التوعية والإرشاد للكثير من السلوكيات الإيجابية في المجالات الاجتماعية والثقافية وغيرها. الأمر الذي يكشف تلك الإمكانات الهائلة التي يمكن الاستفادة منها من الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته إذا ما أردنا إحداث أثر، دون الاعتماد عليها والاتكال إلى ما تقدمه من إمكانات قد تخلق جيلا غير قادر على التعبير عن نفسه.

لقد بدأت منصات الدردشة الذكية تنتشر بين الشباب بشكل كبير، خاصة بين طلاب المدارس والجامعات، ولعل المتابع يعرف أن الكثير منهم يستخدمها في المساعدة لإنجاز الواجبات والبحوث والدراسات التي تُطلب إليهم، ولأن هذه التطبيقات ذكية فإنها تُقدِّم إجابات مختلفة من حيث الصياغة والتحرير لكل من يسألها، وهذا يعني أنه حتى التطبيقات الإلكترونية الخاصة ببرامج كشف الانتحال لا يمكن أن تتعرَّف عليها. إننا أمام إشكال وتحدي يواجه شبابنا لا يقل خطورة عن الكثير من التحديات التي تواجههم، فاتكال الشباب على هذه الروبوتات الافتراضية ستفقدهم حتى أساسيات المعرفة والتعلُّم والتحليل، وبالتالي قدرتهم على النقد والتعامل مع التحديات.

إن أهمية الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في دعم الأهداف التنموية كبيرة، وقدرته على التأثير والتغيير هائلة، لكن علينا ونحن نعمل على تنميته وتطوير آلياته والابتكار فيه، أن لا ننسى أثره الثقافي والاجتماعي، وأن يكون ضمن أولوياتنا التوعية والقدرة على التعامل مع تلك الابتكارات، وكيفية ضمان الموثوقية والأمان في البيانات والمعلومات التي يقدمها خاصة في تطبيقات التواصل المباشر الافتراضية؛ فأثر تلك التطبيقات كبير خاصة على أولئك الأفراد الذين ينجروُّن خلف كل جديد دون التفكير في العواقب، وما يمكن أن يترتب عليه من تحديات قد يواجهها المجتمع، وقد تتسبَّب في الكثير من المخاطر والكوارث الإنسانية.

في 30 مارس الماضي من هذا العام نشرت صحيفة (المصري اليوم) خبرا بعنوان (GPT يقتل أول إنسان) نقلا عن صحيفة (La Libre) البلجيكية، وجاء في الخير أن رجلا بلجيكيا قد انتحر في ذلك اليوم إثر حواره مع دردشة الذكاء الاصطناعي (GPT)؛ حيث كان يتبادل المحادثات اليومية مع الشات بوت (ELIZA) الافتراضية عبر هذا الموقع، وبما أنه كان يعاني بعض الإشكالات النفسية واعتناق بعض المخاوف المرتبطة بحتمية الزوال، فقد استطاعت (ELIZA) إقناعه بالانتحار من أجل أن يلتقيا في الجنة بعد أن أكدت مخاوفه الوهمية ونمَّتها في ذهنه. وقد انتهى الخبر بتأكيد مؤسسي برنامج الدردشة بأنهم ماضون إلى تحسين أمان الذكاء الاصطناعي والتنبُّه من أية أفكار انتحارية قد يوجهها الناس إلى الروبوت أثناء الدردشة. إن مثل هذه الحادثة جديرة بالنظر والتأمل إلى تلك التحديات والمخاطر التي يمكن أن تواجه المجتمعات جرَّاء تلك الأنماط الذكية التي تصلنا من العالم والنماذج التي يتم تطويرها من الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم من أهميتها في تحقيق الكثير من الأهداف التنموية والمعرفية للمجتمعات، إلاَّ أن علينا التنبُّه من مخاطرها، وتكثيف الجهود خاصة من قبل المؤسسات المعنية بالثقافة والتربية والتنمية الاجتماعية والصحة النفسية في تأسيس برنامج وطني يُعنى بالتوعية من ناحية، وآليات التعامل والضبط لكل تلك التحديات، حتى نضمن تعظيم القيمة الإيجابية من تطورات الذكاء الاصطناعي ونحدُّ من إشكالاته ومخاطره.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة