الدعوة إلى محاكمة نتانياهو تكشف ازدواجية الغرب الأخلاقية

26 مايو 2024
ترجمة: أحمد شافعي
26 مايو 2024

جاءت الاحتجاجات الغاضبة من إسرائيليين وأمريكيين بشأن قرار الأسبوع الماضي من مدعي المحكمة الجنائية الدولية بالسعي إلى اعتقال بنيامين نتانياهو بتهمة ارتكابه جرائم حرب لتلقي ضوءا جديدا على واقع قديم: هو أن جميع الناس متساوون ـ في نظر من يعتلون القمة وينعمون بسلطة سياسية حاسمة ـ لكن بعضهم أكثر تساويا من بعض.

يكمن في لب الاعتراضات على الخطوة الجريئة التي قام بها كريم خان انطباع صامت بأن العنف المفروض على الفلسطينيين ـ وهم جماعة من الناس مهملة مهمشة عديمة الصوت إلى حد بعيد ـ هو أقل خطأ، أو هو بطريقة ما مقبول أكثر، من العنف ضد الإسرائيليين، وهم مواطنون ذوو امتيازات وحماية في دولة وطنية مستقرة. ومن يعترض على ذلك يوصم، سفها وحتما، بمعاداة السامية.

وهذا الغضب الجليل في نظر أصحابه من الساسة الأمريكيين والإسرائيليين وبعض الأوروبيين لا يخلو من دلالة، وإثارة للأسى. لقد كانت المجزرة التي أنزلتها حماس على قرابة ألف ومائتي شخص في أكتوبر الماضي مروعة وإجرامية ولا تغتفر، ولا بد لها من عقاب، وهو آتٍ لا محالة. وهي لا تبرر الرد الدموي غير المتناسب وغير القانوني وغير التمييزي من إسرائيل في غزة. وهذا ببساطة ما لا يفهمه أولئك الساسة.

إن لحياة الفلسطينيين مثلا ما لحياة غيرهم من القيمة والأهمية. فكيف يتسامح هؤلاء الساسة الغربيون كثيرا أو يتجاهلون أو يدافعون عن قتل قرابة خمسة وثلاثين ألف فلسطيني منهم ما لا يقل عن اثني عشر ألف طفل وامرأة (بناء على أرقام الأمم المتحدة المراجعة) من خلال قصف بيوت ومستشفيات ومنع وصول المساعدات أو السطو عليها؟

يصر نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل وجو بايدن الرئيس الأمريكي أن استدعاء المحكمة لقادة من إسرائيل وحماس في وقت واحد يوحي ضمنيا بـ«تكافؤ أخلاقي». وهذا هراء. ذلك أن هناك «أساسا وجيها للاعتقاد» بحسب ما قال كريم خان ومستشاروه الخبراء بأن كلا الجانبين ارتكبوا جرائم جنائية خطيرة. ويجب على جميع المسؤولين أن يجيبوا بالتساوي، أيا كانوا ومهما كانوا.

ولعل نتانياهو يعتقد هو وشريكه في الاتهام وزير الدفاع يوآف جالانت أنهما فوق القانون، والقانون الدولي خاصة، إذ يزدريانه تماما. ولعلهما يعتقدان وهما يفرضان احتلال المناطق الفلسطينية أن إسرائيل هي الأخرى فوق القانون. وذلك يقينا هو الانطباع الناجم عن سلوك جيشهما في غزة.

ولو أن الأمر كذلك، فهما لا ينفردان بهذا الاعتقاد. ففلاديمير بوتين الرئيس الروسي متهم بالإشراف على جرائم كثيرة في أوكرانيا. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال العام الماضي. فهل يشير هذا إلى «تكافؤ أخلاقي» مع حماس أو مع نتانياهو؟ لا. إنما يعني ببساطة أن بوتين، شأن أي فرد آخر، لا بد أن يرد على أفعاله المزعومة. وشأنهما، فإن افتراضه الحصانة زائف، ويجب إظهار زيفه.

المدهش بحق هو أنه يصعب على القادة الغربيين تقبل مفهوم المساواة أمام القانون، حتى وهم يستعرضون التمسك بالنظام الدولي الديمقراطي القائم على القواعد. لقد كان رد فعل بايدن منافيا للمنطق، وأقرب إلى حدود الغرابة. فقد قال إن «ما يجري ليس إبادة جماعية». لكن المحكمة الجنائية الدولية لا تقول هذا.

أدان بايدن جهود اعتقال إسرائيليين (دون قادة حماس) معتبرا إياها «شائنة». وهو نفسه انتقد بحدة تكتيكات التجويع التي تتبعها إسرائيل في غزة، وهي تهمة مركزية من تهم المحكمة الجنائية الدولية، وعجزها أي إسرائيل عن حماية المدنيين. غير أنه الآن يرفض المحاولات لضمان محاسبة هؤلاء المسؤولين، مع دعمه مذكرة الجنائية الدولية الخاصة ببوتين. وهذا عدالة انتقائية.

وبوصفه محاميا دارسا، يجب أن يكون هذا معلوما لأنطوني بلينكن ـ كبير الدبلوماسيين الأمريكيين. إن أغلب العالم يعترف بدولة فلسطينية. وانضمت إلى أولئك أخيرا كل من أسبانيا وأيرلندا والنرويج. ومهما يكن ما يقوله بلينكن، فإن للجنائية الدولية سلطة قضائية مشروعة في غزة. ولا ينبغي حتى أن ينتظر الفلسطينيون إلى أن تجري محاكم إسرائيل المخترقة بتحقيقاتها. ففي تجربة سابقة، طال الانتظار بهم كثيرا في واقع الأمر.

يواصل نتانياهو والمتحدثون العدوانيون باسمه الثناء على القوات الإسرائيلية باعتبارها «أكثر جيوش العالم أخلاقية». ويزعمون دونما استناد إلى دليل أن هذه القوات تفعل أكثر مما فعل أي جيش في التاريخ لاجتناب إيذاء المدنيين. لكن العالم ليس أعمى، برغم الستار الذي تفرضه القيود الإسرائيلية على الاستقصاءات والأعمال الصحفية المستقلة.

ما يجري في غزة رعب من صنع البشر، غير مسبوق في العصر الحديث. وعقد المقارنات المباشرة مسألة إشكالية تفتقر إلى الدقة. لكن وفقا لمقاييس الوفيات والنزوح، تبدو غزة أسوأ من الموصل (في عام 2017) ومن حلب (في عام 2016) بل ومن جروزني (في ما بين عامي 1994 و1995). والفلسطينيون أيضا يموتون بأرقام قياسية في الضفة الغربية المحتلة.

والغطرسة والجهل لدى من يقودون البلاد المحبة لإسرائيل هو وحده الذي يفسر التسامح الراسخ والقديم مع سلوك وحشي. ففي بريطانيا، وصف ريشي سوناك خطوة المحكمة الجنائية الدولية بأنها «غير مفيدة على الإطلاق». فما الذي يفكر فيه حقا؟ هل من غير المفيد أن نحاول الحد من قتل خارج على القانون؟ أم من غير المفيد أن نطلب العدالة؟ هذا ليس تكافؤا أخلاقيا. إنما هو ارتباك أخلاقي مطبق.

والبعض في إسرائيل يفهم الأمر. فقد قالت صحيفة ها آرتس الإسرائيلية اليسارية إن فشلا استراتيجيا كبيرا هو الذي أدى إلى هذه الخطوة من المحكمة الجنائية الدولية. «لقد شرعت إسرائيل في حرب غير مبررة...حظيت في أول الأمر بدعم دولي واسع. لكن سوء الإدارة لهذه الحرب، وقسوة هذه الحكومة وغباءها الجبان، حولتا إسرائيل إلى دولة منبوذة عالميا».

ولا تقتصر مشكلة النبذ السياسي المفترض على إسرائيل. ففي باريس في الأسبوع الماضي، واجه ثلاثة مسؤولين في نظام بشار الأسد الطغياني السوري محاكمة غيابية عن جرائم ضد الإنسانية. وفي إشارة إلى «السلطة القضائية المطلقة» أصدرت فرنسا أيضا مذكرة اعتقال للأسد. وهي إشارة مبدئية تأتي عقب فعل مماثل من بلاد أوروبية أخرى.

وشأن بوتين، والأسد، ومتهمين آخرين لدى الجنائية الدولية من قبيل الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، قد يقدّر نتانياهو أنه لن يمثل أبدا في قفص المحكمة. لكن هل له أن يثق في ذلك؟ فالبرغم من ازدواجية المعايير في الغرب، كان ذلك الأسبوع إجمالا أسبوعا جيدا للعدالة الدولية.

وفي خطوة أخرى إلى الأمام، أصدرت محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة أمرا لإسرائيل بإيقاف هجومها على رفح، بجنوبي غزة. والرسالة التي تتألف من ذلك كله واضحة. الحصانة لا يمكن أن تدوم. وقد لا يجد مجرمو الحرب من مأوى دائم. ولا أحد، مهما شطحت به الأماني، فوق القانون. ولكل إنسان الحق في الحماية.