الخلاف الفكري حول الدين والمدنية

30 مارس 2022
30 مارس 2022

يعتبر فرح أنطون المسيحي اللبناني، من مواليد مدينة طرابلس في لبنان، فبعد انتهاء دراسته العالية، سافر إلى مصر، وأنشأ مجلة (الجامعة)، بعدها سافر لبعض الدول الغربية لسنوات قليلة، لكنه عاد مرة أخرى إلى مصر، واستعاد الكتابة في مجلته (الجامعة)، وأصدر العديد من الروايات، واهتم بتحرير مصر من الاستعمار البريطاني، لكنه يريد أن تكون مصر والبلاد العربية، مثل الغرب في فكره وسياساته ونظمه من حيث أن يكون الدين بعيدا عن الدولة، كما هو في الديانة المسيحية، وهو الداعي لها بقوة في حواراته العديدة، وقد اهتم المسيحيون الذين هاجروا إلى مصر في إنشاء العديد من الصحف والمجلات. ويعد فرح أنطون من هؤلاء الذين اهتموا بتأسيس مجلة ثقافية وأدبية، وعندما ظهرت كتابات الإمام محمد عبده عن الإصلاح الديني، وأهمية الدولة الإسلامية، دخل فرح أنطون في جدالات مع الإمام محمد عبده، سواء في مجلة الجامعة أو على مجلة المنار، ويعتبره البعض أحد أعلام النهضة العلمانية، بحكم ديانته النصرانية، وقد هاجر من لبنان بسبب الخلاف مع الدولة العثمانية وصراعاتها مع الأقليات، لكن هذا مجرد أمنيات أخفق فيها فرح أنطون، كمال عبد اللطيف، في تحقيقها:"فمع مرور قرن من الزمان على دعوته لم يحقق في النظر السياسي العربي ما يتجاوزها تماما، فاللغة السياسية الجديدة/ القديمة التي عادت إلى الواجهة الفكرية في العقود الثلاثة الأخيرة ترجع بنا إلى أزمنة موغلة في القدم، وتضع كل مكاسب تاريخنا السياسي الحديث فكرا وممارسة في خانة التغريب والاختراق". وهذا ما يثيره البعض ممن تأثر بالغرب وفكره.

وهي رؤى تتكرر في عدد من الكتاب والباحثين، دفاعا عن رؤية فرح أنطون، مع أن كتابه (ابن رشد وفلسفته.. مع نصوص المناظرة الجدالية)، لم يلق اهتماما من كل النخب الفكرية المحافظة كنها، وحتى العلمانية وغيرها من الموافقين أو المخالفين لوجهة نظر أنطون، ويبرز أيضا ـ بـ"الاستدلال باختفاء كتاب فرح أنطون ابن رشد وفلسفته من حيز التداول العام، ثم برهنة عدم طباعته في مقابل الطبعات الكثيرة لكتاب محمد عبده الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية، وتأكيد أن ذلك يبرهن احتفاء الثقافة السائدة بما سمّاه ـ محمد الحداد ـ "محاولة محمودة القيمة من الناحية الفكرية، لكنها مهمّة من ناحية تعبيرها عن رغبات أيديولوجية واجتماعية". يعتبر الجدال بين الإمام محمد عبده وفرح أنطون، فصل الدين عن الدولة، أو مدنية الدولة، والأخذ بالعلمانية الغربية، وقضية التسامح بين الإسلام والنصرانية، من أهم السجالات التي جرت بينهما حول الدين والمدنية، بالقياس إلى الجدال حتى السابق مع هانوتو، لكونه تعلق بقضايا فكرية متشابكة، لا تزال تثير جدلا مستمرا حتى الآن. ولذلك يرى فرح أنطون أن الفصل بين السلطة السياسية والمؤسسات الدينية هو الذي أسهم في تحقيق النهضة في الغرب وتقدم العلم، وفي عام 1905، نشر أنطون عدة مقالات في مجلته (الجامعة) في مصر، تلخصت في رأيه أن الدين المسيحي أكثر انفتاحا للعلم والمدنية، وكذلك تقبل الفلسفة، وأشار إلى المقولة الشهيرة عن الديانة المسيحية، بينما الإسلام يختلف عن ذلك في عدم الفصل بين السلطة السياسية والدين، وهذا يعني أن على المسلمين أن يفعلوا ما فعله الغربيون، في مسألة إبعاد الدين عن السياسة والحكم والفصل بينهما، فأنطون يريد تقليد الغرب وتطبيق ما جرى مع الكنيسة الغربية، ليطبق في الإسلام، ومما قاله فرح أنطون في بعض مقالاته:"إن تمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوروبا وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحا مع الفلسفة". وهذا القول من فرح أنطون لا شك، يستغرب من أمثاله أن يقوله وهو الذي تعايش مع الحكم الإسلامي، كمواطن عربي، مثقف ومطلع على النظم الإسلامية في تطبيقاتها التشريعية، وليس كبعض من الغربيين الذين كتبوا أو نشروا بحوثهم، وكانت لديهم بعض الأحكام المسبقة والمعلومات المضللة عن الإسلام، فرد الإمام محمد عبده على طرح فرح أنطون هذا، مستغربا ما قاله، ومما جاء في هذا الرد الذي هو أقرب للعتاب والنقد المنطقي فيقول:"ليس من السهل علي أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول ـ وهو ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية ـ وإنما هي عين الرضا تناولت من حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت، ثم أملت على قلبه ما جرى به قلمه".

ومن هنا جاءت إضافة الشيخ محمد عبده في رده على فرح أنطون، حول ما قاله من آراء حول الإسلام، تفتقد إلى الموضوعية، لما هي رؤية الإسلام الصحيحة، كما جاءت في نصوصه، من حيث التداخل بين الدين والدولة والتمايز بينهما، وعدم الفصل التام، كما جرى في الغرب قبل إقصاء الكنيسة عن الشأن العام، فقال في رده إن:"الإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في عمله..

فكان الإسلام: كمالا للشخص، وألفه في البيت، ونظامًا للملك امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم يدخل فيه(...) فليس في الإسلام كهانة أصلًا.. ولا وساطة دينية فضلًا عن سلطة دينية ـ تقف بين الإنسان وخالقه". وهذه من الحقائق التي لا تقبل الجدل.

والحقيقة ما يطرحه بعض الباحثين الغربيين، ومنهم بعض المستشرقين، وممن سار في ركب هذا الفكر، من أبناء جلدتنا من حيث قبولهم بفكرة العلمانية، وفصل الدين عن الدولة وكأن الأمر من الحقائق التي لا تقبل الرفض، فقال فيهم سيد قطب بعد جلاء الاستعمار البريطاني من مصر:"خرج الإنجليز الحُمر وبقى الإنجليز السمر". وتعني هذه العبارة أن الاستعمار،غادر مصر وترك أتباعا له، يروجّون لأفكاره للاستتباع والإلحاق به في توجهاته الفكرية والسياسية، والعلمانية يراد فرضها بحجج واهية، وكأنها من فكر عصر الأنوار كما يعتقد البعض، لكنها خرجت من رحم الديانة المسيحية، ومقولة: (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، بما يعني أنها ديانة روحية تفصل بين الدين والدولة، ولا علاقة لها بالأمور السياسية أو المدنية، وهذا عكس الإسلام الذي يجمع بين الدين والمدنية، لكونه عقيدة وشريعة تّسير الحياة المدنية والاجتماعية، وحتى المصطلحات والأفكار التي برزت مع عصر الأنوار وحتى قبله، كما يرى د. طه عبد الرحمن، ومنها مصطلحات" الدولة الحديثة"، و"العلمنة" و"فلسفة التاريخ"، وكلها تنطلق من مفاهيم لاهوتية مُعلمنة، وليست مستحدثة مع حركة الإصلاح الديني الأوروبي وما بعده، وينقل د.طه عن الفيلسوف والمفكر الألماني "كارل شميت"، من كتابه (اللاهوت السياسي):"إن كل المفاهيم الراسخة للنظرية الحديثة للدولة مفاهيم لاهوتية مُعلمنة، وهذا لا يصدق فقط على تطورها التاريخي، حيث إنها نُقلت من علم اللاهوت، إلى نظرية الدولة[...]، بل يصدق أيضا على بنيتها النسقية التي يُوجب التحليل الاجتماعي لهذه المفاهيم معرفتها". مع أن الاعتقاد لدى البعض ممن انساق خلف هذه المصطلحات ومن غير الغربيين، اعتبرها قمة المدنية الحديثة، ولا دخل لها بالقيم اللاهوتية، وهذه الصيغ الفكرية والفلسفية، التي تطرح، منذ قرنين وكأنها مفاهيم حديثة أتت بعدما تم إقصاء الكنيسة، وتم تحيّيد الدين وفصله عن الدولة، لكن د.طه عبد الرحمن يرى أنها "أخذت بصيغة (مبرهنة العلمنة)، حيث ظهر:"أن مفهوم "نهاية التاريخ" ليس إلا مفهوم "الخلاص" مُعلمنا، وأن مفهوم المقصد النهائي ليس إلا مفهوم" العناية الإلهية" المعلمن، ومفهوم "البرولتاريا"ليس إلا علمنة مفهوم "الشعب المختار"، فـ"البرولتاريا" هو شعب الله المادية التاريخية المختار، فتكون هذه المادية عبارة عن تاريخ مقدس صيغ بلغة الاقتصاد السياسي، ولا عجب أن يجد "كارل لوفيت" في"كارل ماركس"أوضح شاهد على التوظيف الفلسفي لعقيدة الخلاص". وهذا يعني أن الغرب لم ينس تراثه الفكري والديني، وإن كان قد اختلف مع الكنيسة وسلبياتها في محاربة العلم والاختراع والتطور، وهذه لا تزال كامنة في فكره لأنها ثقافة مغروسة، بالرغم من الهجوم على الدين وإبعاده عن الحياة العامة تماما، وجعل الإنسان في مستوى عند بعض الفلاسفة.