الخروج من التقليد إلى الإبداع: طه عبد الرحمن نموذجا

05 يناير 2022
05 يناير 2022

لا تزال العديد من الكتابات العربية في عصرنا الراهن، وإن كانت قليلة، تركز في السنوات الأخيرة، على قضية الخروج من التقليد السلبي في فكر الحداثة، في جانبها الفكري والفلسفي إلى جانب الرؤى النهضوية التي تحتاج أمتنا إلى تحقيقها، مما سار عليه من الباحثين والأكاديميين العرب، المشتغلين في مسألة النهضة، ومن هؤلاء الباحثين والفلاسفة العرب الأكاديمي المغربي د. طه عبد الرحمن، الذي يصفه بعض المتابعين لأطروحاته الفكرية والفلسفية، بأن نظرياته الفلسفية والمنطقية تجعله فيلسوفاً مجدداً في عصرنا الراهن، وهذا ما اهتمت له العديد من الكتابات الغربية والعربية معاً، في طرحه المتميز، ومن وضعه مصطلحات نحتها بعمق في مؤلفاته، جعله بحق من الفلاسفة العرب الوحيدين، في الوطن العربي، ولذلك من المهم تفريق الدارس للفلسفة بين الأكاديميين العرب، الذين يدرسون الفلسفة في الجامعات العربية، لكنهم لم يأتوا بجديد في رؤية فلسفية تختلف عما وضعه الفلاسفة اليونان قديما، أو ما وضعه بعض الفلاسفة في الغرب، من رؤى فلسفية فكرية وسياسية واقتصادية، ومن هنا من الإنصاف الذي يجب أن يقال.. أن د. طه عبد الرحمن تميز عن أقرانه العرب الذين اشتغلوا بالفكر والفلسفة في العقود الماضية، في أن ينحت نظريات ومصطفات، بمقاييس العلوم العصرية، وكدارس للفلسفة والمنطق من جامعة السوريون بفرنسا، ومتابع لكل النظريات الفلسفية في العلم الغربي.

ولا شك أن أمتنا العربية لديها رصيد كبير في تراثها الفكري والعلمي، في شتى مجالاته، وهو ما جاءت به الحضارة العربية/ الإسلامية عصرها الذهبي، واستفادت منها الحضارة الغربية نفسها، والحضارات الإنسانية عبر التاريخ تنقل الخبرات من الحضارات السابقة ـ لكن هناك فرق بيّن بين أن تأخذ منهج الحضارة وطرق تقدمها وأسسها في الانطلاق، وبين أن (تتبع دون أن تبدع)، والفارق شاسع بينهما، باعتبار أن العديد ممن اعتنوا بالحضارة العربية الإسلامية، من المهتمين الغربيين في مجال الفلسفة والفكر، فإنهم عندما عرفوا بما نقله العلامة ابن رشد، وهو من اعتنى بفلسفة أرسطو، أخذوا بضاعتهم (فلسفة أرسطو فقط)، لكن ابن رشد له آراء من منطلقات إسلامية، فابن رشد: الفقيه ـ والمتكلم ـ وصاحب التوحيد الإسلامي ـ القاضي في الشريعة الإسلامية ـ فإنهم لم يلقوا لها بالا! وهذا الموقف لا شك يبرز مسألة التمييز بين الثقافات عند الشعوب وهذا من حقهم، مع أن ابن رشد، حاول التقريب من خلال كتابه: (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال). والحكمة تعني الفلسفة في عصرنا الحالي، مع أن البعض انتقد ابن رشد، في تقليد فلسفة أرسطو، وأنه أضاف إليها من أفكاره ورؤيته، لكنه ظل مقلداً للفلسفة اليونانية ومنبهرا بها، لكنه يظل مع ذلك أقرب للفكر الإسلامي فيما أشرنا إليه.

ولذلك فإن د. طه عبد الرحمن انتقد أسلوب التقليد لفكر الآخر وهويته وقيمه واتباعه في كل أفكاره حتى منها ثقافته الذاتية وسبل عيشه، وهذه من المثالب الكبيرة التي وقع فيها بعض المشتغلين بالفكر الغربي والحداثة، وهو ما تحدث عنه د/ طه عبد الرحمن في كتابه (روح الحداثة.. المدخل لتأسيس الحداثة الإسلامية)، وسبق ذلك كتابه الذي يساوق هذا المجال بإبعاد الأخلاق عن الدين، وأدت إلى انتكاسات كثيرة من خلال تبني هذه المراوحة الفكرية، وهو كتاب: (سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية)، ولا شك أن قضية التمايز والاختلاف، بين النماذج الفكرية مسألة طبيعية بين الثقافات، وهذا الأمر مهم ليكون الحفر المنهجي في تراث كل أمة في المجال الفكري والفلسفي يستمد مما يدور في قيمها الخاصة، ويمكن أن نجدد المضامين التي هي رصيد من داخل الذات وليس من خارجها، وأن نستعيد القدرة على الإبداع من رؤيتنا الخاصة، ومن فكر الأمة ذاتها واجتهاداتها وفق ما نراه صالحا وإيجابياً، في أن تصنع الأمة نهضة وحداثة من رصيدها الفكري، وليس من التقليد من خارجها كما أشرنا آنفاً، ولن تحقق الأمة أية تقدم إذا ظلت عالة على غيرها، واستجلاب منتجاتها والتماهي معها فكرياً وفي أسلوب حياتها.

ومن المؤلفات المهمة التي طرحها الفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن، وناقش فيها قضية الاختلاف مع الغرب في القضايا الفكرية والفلسفية، التي تتعلق بحياته ومن يدور حول تشريعاته ونظمه كتابه وهو كتاب (روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية)، وهذا أيضا قدم نقدا جوهريا في مسألة التباين بين الرؤية العلمانية، وبين الفكر الإسلامي، الذي له من المضامين التي تفترق عن العلمانية ورؤيتها للوجود والحياة، وهذه مسألة فكرية بين الثقافات والأديان، فالعلمانية نشأت من خلال الديانة المسيحية التي هي ديانة روحية، والتميز واضح بين الإسلام والمسيحية، من خلال ما طرحه: «متى 15 ـ 22» في المقولة الشهيرة (دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، فالرؤية الإسلامية ترى أن الدولة لها صلة بالدين، وليست منفصلة عنها، وهي التي تقوم على تطبيق الشرائع المنصوصة في الدين الإسلامي، والدولة أيضا من مهمتها الأشراف على المؤسسات الدينية والمفتين والأئمة الخ: فهذه المسألة.. الفصل التام، ليس لها الحضن الفكري كما كان في المسيحية.

وقد توسع د. طه عبد الرحمن في طرح مسألة التضييق الذي تضعه العلمانية وفق ما تراه في تطبيقه، والذي يجب تعميمه على البشرية، لكنه يرى إلى أن الحاجة في مجتمعاتنا إلى سعة (الائتمانية) بروحها وقيمها الربانية، وهذا المصطلح جديد من د. طه عبد الرحمن، من الفكر الإسلامي، ويعني الأمانة على التدبير السليم..

والتزكية.. والشهادة على الحق الذي يتطلبه الإخلاص. الذي جعل بعض الباحثين يتفاجأون من قدرة د/ طه عبد الرحمن، وقدراته الاستدلالية والمنطقية، ومن خلال مصطلحات جديدة لم يسبق أن اختطها أحد من أقرانه من المفكرين أو المشتغلين بالفلسفة في الجامعات العربية، وهذه لاقت اهتماماً كبيراً من المهتمين بالفكر العربي، وفي هذا الكتاب، وفق طرح د. طه، يعتقد أن العلمانية ضيّقت الوسع في الاختيار، عندما يراد فرضها. وتقول الكاتبة والباحثة المغربية جميلة تلوت في بحثها (إشكالية العلاقة بين الدين والسياسية في فكر طه عبد الرحمن): «اختزال الدين في العبادات: أي انحصار الدين في شعائر خاصة، فيصير بذلك عملا طقوسيا لا أثر له في الحياة العامة، وهذا اختزال صارخ للدين، في حين أن الفاعل الديني، كما يقول د.طه لا تقف ممارسته الدينية مطلقا عند حد إقامة رسوم العبادة، مستجيبا لحاجة روحية خاصة، بل تتعداها إلى أبعاد أخرى لحياته: الاجتماعية منها والتربوية والثقافية والاقتصادية والصحية.. اختزال الدين في الروحانيات: ومعناه انحصار الدين في الإيمان الداخلي».

وهذه إشكالية واجهتها العلمانية بالرفض في العديد من المجتمعات، لأنها تريد إقصاء فكر الآخرين وهويتهم الثقافية، ولذلك تواجه العلمانية النقد الشديد لما تود تضييقه بحسب رؤية طه عبد الرحمن، وهذا مسألة تتجاوز واقع وفكر الذي يريده منهج الآخر، وهو (حرية الاختيار)، فيما يقبله أو يرفضه، أما الإلحاق والقصر والفرض، فلا يمكن قبول أي فكر بالإذعان والفرض، ويرى الكاتب السوري عمر كوش في قراءته لكتاب طه عبد الرحمن (من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية) أنه يرى أن ما يجري: «هو الاعتراض على الدعوى العلمانية، التي تشترط الفصل بين العمل الديني والعمل السياسي في نهوض الناس بوضع قوانينهم بأنفسهـــم تدخل على الوجود الإنساني شتى ألوان التضييق، كونها تنبني افتراضات باطلة، منها أن إرادة التدبير لا تتجلى إلا في القدرة على وضع القوانين، وأن إرادة الخالق تتعارض مع إرادة الإنسان. كما تنبني على اختلالات في فهم الصلة القائمة بين الله والإنسان، الأمر الذي أفضى إلى قصـــر وجـــود الإنسان على عـــوالم وهميـــة غير حقيقية، من خلال قطـــع الصلة بين العالمين، المرئي والغيبي، وقلب مقاصدهما.» لكن لماذا اهتم الباحث العربي في الولايات المتحدة د/ وائل حلاق، بكتابات د.طه عبد الرحمن، خاصة مسألة الأخلاق التي طرحها في أحد مؤلفاته، واعتبر أنه يهدف إلى إصلاح الحداثة ؟.. وللحديث بقية: