الحياد.. هل يحقق التسويق السياسي؟

30 يوليو 2023
30 يوليو 2023

تنحصر المعالجة هنا؛ بين فكرتين: الأولى الحياد؛ والثانية التسويق، وتأتي ثيمة السياسة لتعطي هوية ما للمعنى العام لمجموع الفكرتين، مع أن الموضوع يمكن أن يقاس على التسويق الاجتماعي، أو التسويق الاقتصادي، أو التسويق الثقافي، فكل هذه عناوين مشروعة لذات الفكرة، وإنما يأتي هنا التخصيص السياسي؛ لأن السياسة واقعة في محنة؛ وهذه المحنة تتجاذبها أطراف لا تعترف إلا بتحقيق المصلحة وفق مفهوم: «إن لم تكن معي؛ فأنت ضدي» بخلاف العناوين الأخرى السالفة الذكر، التي لا تنحو هذا المنحى بصفاقته المباشرة كما هو الحال للمنهج السياسي، فوق ما يشكله الحياد ذاته من - أقل ما يوصف بأنه انكفاء عن المواجهة - توارٍ خلف الأبواب المغلقة، مع أن فعله قوي، ومؤثر بدرجة كبيرة؛ لأنه خال من الأطماع في الآخر إلى حد ما؛ كما هي الصورة السائدة، أو كما يروج لها؛ لأنه لا ينتصر لفريق دون آخر، وإنما؛ كحال من يقف على أمر ما؛ من جميع جوانبه المختلفة، ويراقب عن كثب عما سوف تسفر عنه نتائج ذلك الأمر، ما مساهمته المباشرة في الحلول، من غير مظنة الانتصار للخاص المطلق، ولذلك قد يثمن دور المحايد، وينظر إليه بشيء من التقدير في نهاية الأمر، وقد ينسى هذا الدور في زحمة الأحداث المتوالية، فكل ذلك وارد.

يمتحن الحياد بين تموضعين؛ الأول: المنطقة الرمادية، والثاني: التسامح، وكلا المنطقتين موضع امتحان صعب على الدول/ الدولة التي تختار أحدهما؛ لأن في ذلك مخاطرة على مصالحها الخاصة، بينما الواقع لا يشير إلى أن الدول ذات الحياد المطلق؛ هي في موضع تقدير بالمطلق، أو أن الحياد يجلب لها المنافع من كل مكان؛ إكراما لحياديتها في كل حين، لعدم زج نفسها في أتون الصراعات القائمة هنا أو هناك، بل ما هو ظاهر هو العكس؛ فقد تتهم، وقد تصنف على أنها تتموضع في المنطقة الرمادية، وأنها تعمل من تحت الطاولة، بينما الدول ذات التوجه المعاند، والمقحم نفسه في صراعات هنا أو هناك؛ ربما؛ قد يوضع له حسابات الربح والخسارة، فإما الخسارة نكاية لما تقوم به من أعمال عدائية هنا وهناك، وأما المرابحة معها في مساحة تداخل المصالح، فالكل يعمل لمصلحته الخاصة، وليس هناك من يعمل لمصلحة الجميع؛ كما هو معروف بالضرورة، وبالتالي يستلزم الأمر مناصرته، وتلبية؛ ولو الشيء اليسير؛ من طلباته ومتطلباته، وفق مفهوم: «إن لم تكن ذئبا؛ أكلتك الذئاب» والمسألة لا تخرج كلية عن مفهوم: «الحياة للأقوى» وليس للأصلح؛ كما هو الظن في أقل تقدير، وأتصور؛ وفق تقييم خاص؛ أن الدول التي تعتمد الحياد منهجا في جميع أنشطتها مع الآخر، تدرك هذه الحقيقة، وتتحمل تبعاتها الثقيلة، ولكن لأنها تؤمن بأهمية الحياد، وتعتمده منهجا مهما، فهي تعض عليه بالنواجذ، وتعلم؛ مستشرفة؛ أفقه البهي والمشرق.

السؤال المثار هنا أيضا هو: عندما تعلن دولة ما، أو مجموعة إنسانية ما، أنها تقف على الحياد من قضية، أو قضايا محل خلاف، أو أنها تلتزم منهجا حياديا على طول خط الأفق: هل هذا الالتزام منبثق من انتماء عرقي أو لغوي، أو هو عنوان لمكتسب حضاري متجذر، أو أنه على أساس المبادئ والمصالح النفعية؟ ربما تكون هناك خانة صغيرة للمكتسب الحضاري عندما يُتَكَأْ عليه، وعلى أنه منهج أصيل، لكن هذا المنهج تتآكله المصالح والقوى النفعية، وبالتالي فالإتكاء عليه جملة، فيه من المخاطرة ما فيه؛ لأن تقديره المعنوي ضئيل جدا في ظل هذا التدافع الحاصل، فالحياة؛ ومنذ الأزل قائمة على الأخذ والعطاء، «تعطي باليمنى؛ وتستلم باليسرى» وفي ثقافتنا المحلية هناك مثل نصه: «من أعطاك نصف الإناء؛ ينتظر منك ملأه» مع أن جل العلاقات القائمة سواء على المستوى الفرد، أو الجماعة، أو الدول، لا تقوم على العطاء «الصدقة» وإنما تقوم على المنافع المادية المباشرة، «مذهب النفعية» ولذلك وحتى في ظل ما نتحدث عنه وهو الـ»الحياد» لن تخرج هذه الصورة عن هذا المذهب، والمحايد؛ يقينا؛ ليس فيه من الغباء حتى يسلم أمره لمصلحة الآخر دون مقابل، ولكنه يعمل دون إثارة للضجيج، المصاحَبُ بالترويج الإعلامي «السمج» في كثير من الأحيان، ولذلك فالحياد المنبثق من المكتسب الحضاري؛ لعله يكون الأقوى في التمكين؛ ويليه الحياد المنبثق من مذهب النفعية، وهو السائد في الثقافة الجمعية، أما الحياة المنبثقة من الانتماءات الصغيرة الأخرى (اللغة، المذهب، الطائفة، اللون) هذه ينظر إليها من خلال ظرفها المؤقت، أو حالتها الخاصة، وهي؛ في كل أحوالها؛ لا تمثل ثقلا مهما، يحسب له حسابات التأثيرات القوية في العلاقات.

السؤال الآخر: كيف يمكن التوفيق بين مفهوم الحياد وبين مفهوم التسويق الذي هو عبارة عن مجموعة من العمليات فيها الربح والخسارة؟ ومفهوم الربح والخسارة يوجد الحركة التي قد تؤدي إلى كثير من النصرة لطرف دون آخر؛ لأن الجميع مع الجميع، ولا يعيش في جزر معزولة، وبالتالي فالمشاركة حاصلة بصورة أو بأخرى، سواء مشاركة فيها «سلم؛ تستلم» أو فيها عقود مؤجلة إلى حين، ووفق هذا المعنى، يتسلل الخوف من تحييد هذا المحايد في زوايا ضيقة، ولا يتاح له المشاركات العامة التي تقتسم فيها الغنائم، وبالتالي: «فلا طال بلح الشام، ولا عنب اليمن» ويظل رصيده بصورة دائمة «عائدا بخفي حنين» وربما تكون النتائج بخلاف ذلك تماما، حيث يكتسب المحايد ما لا يكتسبه الذي ينعق في كل الزوايا، فالهدوء؛ على كل حال؛ له مكاسب كثيرة، يأتي في مقدمتها القدرة على وضع الخطط والبرامج دون ضجيج، ومنها (ثانيا): إن هناك من يسعدهم الحياد، أكثر من الانحياز، فالأرضية المتاحة في منطقة الحياد، أكثرها أمانا، واطمئنانا، بينما الانحياز على الخلاف من ذلك تماما، ومنها (ثالثا): قد تكون المصداقية عند من يلتزم الحياد، أكثرها خلاصا ونقاوة من الآخر الذي قد يناور لأجل أن يكسب المزيد من الطرف المنحاز إليه، ليقينه أن الانحياز مهما طال عمر بقائه، يظل مرهونا بتحقق المصلحة ليس أقل، وبالتالي متى تحققت هذه المصلحة كان للمنحاز الخيار البقاء أو الانسحاب من انحيازه المؤقت هذا.

يقال: «المحايد: شخص لم ينصر الباطل، ولكن من المؤكد خذل الحق» - انتهى النص - فبحياديته قد يمتنع عن مناصرة الحق، بقدر بعده عن مناصرة الباطل، وهذه المسألة إن نظر إليها في جانبها العملي، فهي؛ فعلا؛ إشكالية موضوعية في مفهوم الحياد، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وإنما هو يمسك العصى من الوسط، فهو هنا ينتصر لذاته أولا، مخافة الوقوع في مأزق الإشكال مع الآخر، وهو إشكال؛ في حالة حدوثه؛ يكون فيه ما فيه؛ وعليه ما عليه، هو يراقب من بعيد، ويتموضع بصورة أكثر قوة، وأكثر تبصرا، بخلاف المنحاز، الذي يظل أسير انحيازه، إن كان خيرا أو شرا، حيث يتلقى المأزق الناشئ ما بين انحيازه، وما بين ما يستجد من قناعات قد تقوض هذا الانحياز نحو واقع آخر غير الذي عليه، بينما الحيادي لا يقع في ذات الإشكالية، ولعل في ذلك من الحكمة أكثر.

في مفهوم الذات الحيادية قد يتسامى الطرف المحايد عن مجموعة الخلافات الآنية ليتجاوز مظان الذات الخاصة، فلا يقع في تصنيف محدد، قد يؤخذ عليه في حالات الصراعات التي تقوم بين الدول، أو الأفراد، ولذلك فمجالات نجاته من إشكاليات كثيرة فرصتها أكثر من صاحبه المنحاز نحو خيار واحد، وخاصة إذا ربط هذا الانحياز بكثير من الاتفاقيات والعهود والوعود، والمصيبة تكون أكبر عندما تكون أعمار هذه الاتفاقيات والعهود والوعود بسنين طويلة من شأنها أن تغير الكثير والكثير من القناعات، والأحداث والمواقف، التي لم تكن في يوم من الأيام حاضرة في سجل الذاكرة، ولذلك تبقى الذات الحيادية أكثر ديناميكية من سابقتها «الانحياز» وتظل مرونتها قائمة في مختلف المواقف، وحرية اختياراتها، وتصويب مواقفها أرحب، وأبقى عمرا.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني